Wednesday, December 30, 2009
خلق العالم عند فلاسفة الإسلام
خلق العالم عند فلاسفة الإسلام
الدكتور/ كمال الدين نور الدين مرجوني
تُعدّ مسألة وجود العالم، من حيث هو قديم أم حادث، من بين أهم القضايا التي عرض لها مفكروا الإسلام على اختلاف فرقهم وتياراتهم الفكرية، وبخاصة الفلاسفة، والقول بقدم العالم على مذهب أرسطو قد انتشر في الأوساط الإسلامية أكثر منه على أي مذهب آخر، وكان أن اعتنقه بعض فلاسفة الإسلام، المعروف بـ "المشاؤون"، وعلى رأسهم الفارابي وابن سينا، فاعتنقوا آراء الفلاسفة اليونانية كأرسطو وأفلاطون وأفلوطين. ومن أجل توضيح هذا التأثير فأكتب هذه المقالة الوجيزة لبيان آراء فلاسفة الإسلام حول مسألة خلق العالم.
ومن المستحسن هنا أن نحدّد أولا معنى (الخلق) ، فالخلق في اللغة من خلق يخلق خلقا من باب نصر ، ويطلق لغة على عدّة معان :
- الأول : الإيجاد والإبداع والإختراع نحو خلق الله العالم ، أي أوجده وأبدعه عن تقدير وحكمة.
- والثاني : التقدير نحو خلق الجلد والثوب ونحوهما ، أي قدره وقاسه على ما يريد قبل العمل .
- والثالث : استمرار الأمر والمضي فيه نحو : فلان يخلق ثم يفري ، أي يقرر الأمر ثم يمضيه .
- والرابع : الافتراء نحو خلق فلان القول ، أي افتراه ومنه (ويخلقون إفكا) .
- والخامس : الملموسة والليونة نحو خلق الشيء أي ملسه ولينه ( ) .
وأما في الإصطلاح فالخلق (Creation) هو الإيجاد أى إيجاد الشيء من عدم أو من شيء سابق، فهو مجرد صنع وإحداث ، ومنه خلق الصورة الفنية .
وفرّق فلاسفة الإسلام بين الخلق بمعناه العام والإبداع الذي قصروه على الباري جل شأنه ، وهو إيجاد الشيء من عدم (Creation ex nihilo ) فهو خلق خاص ، وبقاء العالم مساو لوجوده ، فالله موجده وحافظه ( ) . إذن ، فللخلق معنيان : الأول هو إحداث شيء جديد من مواد موجودة سابق كخلق الأثر الفني ، أو خلق الصور الخيالية . والثاني هو الخلق المطلق هو صفة لله تعالى ، لأنه موجد مبق وإبقاؤه مساو لإيجاده ، يحدث العالم بإرادته ، ويبقيه بإرادته ، ولو لم يرد بقاءه لبطل وجوده .
ومما سبق يتضح أن الخلق هو : الإبداع من لا شيء ، وهو مختص بالخالق ، لأنه هو الخالق من غير مثال سابق . وقد وردت في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على قدرة الله في الخلق ، لا على الخلق الأول من العدم فحسب ، بل تشمل كذلك خلق العالم والإنسان ، وكل ما هو كائن ، وكل ما سوف يكون ، فالله يخلق ما يشاء ، كقوله تعالى : هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ) . وقوله : إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ( ) . وقوله : يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ( ) . وقولـه : إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ( ) .
وقد اتفق علماء الإسلام على أن الله خالق لهذا العالم ، وأن العالم مخلوق ، غير أنهم لم يقفوا عند هذا الحد ، بل تجاوزوه إلى الخوض في البحث عما إذا كان هذا العالم قد خلقه الله بطريق مباشر أى من العدم فيكون محدَثا ، أو بطريق غير مباشر أى من المادة السابقة فيكون قديما . وانطلاقا من هذا انقسموا إلى قولين : منهم من يقول بحدوث العالم ، وآخرون يقولون بقدمه ؟ .
ومن هنا ، كانت مسألة وجود العالم ، من حيث هو قديم أم حادث ، من بين أهم المسائل الكلامية التي تحدث عنها الفلاسفة الإسلامية، فهي مشكلة رئيسة في الفكر الإسلامي ، وكانت دائما مثار نزاع وجدل بين الفرق الإسلامية وخاصة المتكلمون منهم والفلاسفة . أما المتكلمون فإنهم اعتبروا البحث في هذه القضية وإثبات حدوث العالم ووجوده بعد أن لم يكن موجودا ، مدخلا ضروريا لإثبات وجود الله ووحدانيته ، وما يتصل بذاته من صفات باعتباره خالقا موجدا ، أو صانعا لهذا العالم بما فيه . فأجمعوا على القول بحدوث العالم ( ) . ولهم على حدوثه أدلة كثيرة أشهرها دليل التميز بين الأعراض والأجسام معتمدين على الحركة والسكون والتغير في الأعراض ، وضرورة ملازمة الأعراض للأجسام وكلاهما حادث فالعالم حادث ( ) . إلا أن المعتزلة فرقوا بين الماهية والوجود ، قالوا : إن الماهية تسبق الوجود ، وإن المعدوم ذات شيء ، وقد نسب الشهرستاني هذا القول إلى الشحّام ( ) . وهذا القول يفضي إلى قدم المادة ( ) .
موقف فلاسفة الإسلام من خلق العالم.
وأما الفلاسفة الإسلاميون من أمثال (الفارابي) و (ابن سينا) فقد ولّوا وجوههم شطر الوجود بما هو وجود أولا ، سواء في جانبه المادي الطبيعي ، أو في جانبه الروحي العقلي ، أو الميتافيزيقي . فقالوا بقدم العالم، وكانوا متأثرين في هذا المنحى بما نقل إليهم من آراء ومذاهب فلاسفة اليونان ، وخاصة أفلاطون وأرسطو . ولخطورة رأي الفلاسفة تجاه هذه المسألة – أى القول بقدم العالم – قام الإمام الغزالي بتكفيرهم ( ) .
ويعتبر الفارابي -هذا ما ذهب إليه دي بور( )- أول من أدخل مذهب الصدور في الفلسفة الإسلامية، ويراد بها فيض الكائنات على مراتب متدرجة من مبدأ واحد ، ومنها يتألف العالم لجميعه ، وهذه النظرية قال بها أفلوطين (203 – 269م) ، وأخذ بها الفارابي وابن سينا ، تفسيرا للوجود ، وتقابل نظرية الخلق ، وتسمى أيضا نظرية الصدور ( ) . يقول الفاربي في تصرير هذه النظرية: "يفيض من الأول وجود الثاني، فهذا الثاني هو أيضا جوهر غير متجسم أصلا، وهو في مادة، فهو يعقل ذاته ويعقل الأول، وليس ما يعقل من ذاته هو شيء غير ذلك، فيما يعقل من الأول يلزم عنه وجود ثالث، وبما هو متجوهر بذاته التي تخصه يلزن عنه وجود السماء الأولى، والثالث أيضا وجوده لا في مادة، وهو بجوهره عقل، وهو يعقل ذاته ويعقل الأول. فيما يتجوهر به من ذاته التي تخصه بلزم عنه وجود كرة الكواكب الثابتة، وبما يعقله من الأول يلزم عنه وجود رابع، وهذا أيضا لا في مادة، فهو يعقل ذاته ويعقل الأول. فيما يتجوهر به من ذاته التي نخصه يلزم عنه وجود كرة زحل، وبما يعقله من الأول يلزم عنه وجود خامس. وهذا الخامس أيضا وجوده لا في مادة، فهو يعقل ذاته ويعقل الأول، فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة المشتري، وبما يعقله من الأول يلزم عنه وجود سادس، وهذا أيضا وجوده لا في مادة، وهو يعقل ذاته ويعقل الأول، فيما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة المريخ، وبما يعقله من الأول يلزم عنه وجود سابع. وهذا أيضا وجوده لا في مادة، وهو يعقل ذاته ويعقل الأول. فبما يتجوهر به من ذاته بلزم عنه وجود كرة الشمس، وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود ثامن، وهو أيضا وجوده لا في مادة، فهو يعقل ذاته ويعقل الأول. فبما يتجوهر به من ذاته التي تخصه يلزم عنه وجود كرة الزهرة، وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود تاسع. وهذا أيضا وجوده لا في مادة، فهو يعقل ذاته ويعقل الأول. فبما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة عطارد، وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود عاشر. وهذا أيضا وجوده لا في مادة، وهو يعقل ذاته ويعقل الأول. فيما يتجوهر به من ذاته يلزم عنه وجود كرة القمر، وبما يعقل من الأول يلزم عنه وجود حادي عشر. وهذا الحادي عشر هو أيضا وجوده لا في مادة، وهو يعقل ذاته ويعقل الأول. ولكن عنده ينتهي الوجود الذي لا يحتاج ما يوجد ذلك إلى مادة وموضوع أصلا، وهي الأشياء المفارقة التي هي في جواهرها عقول ومعقولات، وعند كرة القمر ينتهي وجود الأجسام السماوية، وهي التي بطبيعتها تتحرك دورا( ).
وأما مراتب الوجود، فقد صورها الفارابي في كتابه (فصوص الحكم) حيث قرر أن للوجود مراتب ست هي:
- الوجود الأول: وهو خاص بالذات الإلهية.
- الوجود الثاني: وهو عقول الأفلات الثمانية.
- الوجود الثالث: وهو للعقل الفعال.
- الوجود الرابع: وهو وجود النفس.
- الوجود الخامس: صور الكائنات المادية.
- الوجود السادس: صور المادة.
والمراتب الثلاث الأولى -الله وعقول الأفلاك والعقل الفعال- ليست أجساما ولا في أجسام، أما الأخيرة وهي -النفس، والصورة، والمادة- فيه تلابس الأجسام( ). وهذه الوجودات كما يذكرها الدكتور/ البهي جاء وفق ما قرره (برقلس) ( ).
والواقع أن نظرية الفيض أو الصدور، أو العقول العشرة ، نظرية متهافتة وهي في أساسها فلكية طبيعية ، وقد ازداد تهافتها باستخدامها في الإلهيات . وقد انقضى الزمن الذي كانت تفسر فيه حركات الأفلاك تفسيرا غيبيا أسطوريا بعد أن كشف نيوتن قانون الجذب العام ( ) . وأهم من ذلك فإنها تتعارض مع الإسلام ، وذلك كما يبدو أن هذه النظرية تؤدي إلى القول بأن العالم مثل المبدِع ، لأن ما يصدر عن المبدِع صدورا ضروريا فهو مثله في الذات ، فالعالم إذن مظهر للمبدِع ، وهما ليسا في حقيقتهما إلا شيئا واحدا ، وهذا هو مذهب وحدة الوجود . وأن العقل الأول قبل أن يفيض من المبدِع، فإنه لا يخلو من أن يكون إما مستكنا في ذات المبدِع مع مغايرته لها ، وإما كان جزءا منها . وكلا الإحتمالين يؤدي إلى نفي البساطة المبدِع . وبالإضافة إلى ذلك ، فإن القول بهذه النظرية تؤدي إلى القول بقدم العالم من ناحية ، لأنه فائض من القديم ، وإلى نفي الإرادة والإختيار عن المبدِع ، مادام العلم قد وجد عن طريق اللزوم من ناحية أخرى .
ويرى أفلوطين أن القول بقدم العالم على ما قال أرسطو يقود إلى الكفر ، وأن القول بخلق العالم حسب ما وردت به الروايات الدينية مناقض للفلسفة ، فأراد أن يلفّق مذهبا لا يثير رجال الدين ، ولا يخالف الفلسفة في الظاهر ، فتبنّى رأى أفلاطون في الفيض بعد أن خرج به من نطاق الفلسفة إلى نطاق الدين ، فقال : إن الوجود الأول هو الله. إن الله يتأمل ذاته فيعقل بذلك نفسَه (يعلم إنه موجود) حينئذ يفيض أو يصدر عنه كائن واحد هو (العقل) الأول . هذا العقل هو صورة الله ولكنه ليس الله نفسَه . ويعود هذا العقل الأول فيتأمل ذاته فيصدر عنه كائن آخر هو (النفس الكلية) التي تملأ العالم . وترجع النفس الكلية بالتأمل في العقل الأول فيفيض منها كوائن متعددة هي نفوس الكواكب ... ثم يستمرّ الفيض فيصدر عن كل كائن كائنات أخر أقلّ شبها بالعقل الأول المطلق (البريء من المادة) وأكثر صلة بالمحسوسات ، حتى تفيض الهيولي ، وهي أدنى دركات الفيض لأنها مادة مطلقة فوضى لا صورة لها ألبتّة. وهكذا نلاحظ أن الفيض إنما هو تسوية بين الروايات الدينية في خلق العالم وبين الرأي الفلسفي ورأي أرسطو على الأخص ( ) .
وأما ابن سينا فيصور ذلك بقوله: "إن العقل الأول بذاته ممكن الوجود، وبالأول واجب الوجود، ووجوب وجوده بأنه عقل، وهو يعقل ذاته ويعقل الأول ضرورة، فيجب أن يكون فيه من الكثرة معنى عقله لذات ممكنة الوجود في حد نفسها، وعقله وجوب وجوده من الأول المعقول بذاته، وعقله الأول، وليست الكثرة له عن الأول، فإن إمكان وجوده أمر له بذاته لا يسبب الأول. بل له من الأول وجوب وجوده، ثم كثرة أنه يعقل الأول ويعقل ذاته، كثرة لازمة لوجوب حدوثه عن الأول( ).
ويلاحظ أن فيض الموجودات عن المبدأ الأول عندهم عملية ضروية لازمة لذات الواجب، وابن سينا يقول بذلك صراحة. ويترتب على هذا القول أن يكون واجب الوجود فاعلا بالاضطرار وهذا يتنافى مع وصف يعتبر من أخص خصائص الذات الإلهية، وهو (الإرادة)، ذلك الوصف الذي يخصص إيجاد أو إعدام الممكن في وقت دون غيره، والقرآن الكريم قد اشتمل على بعض الآيات التي تبرز هذا الوصف وتقرره، مثل قوله تعالى: (قَلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْر إِنَّكَ عَلَى كُلَّ شَيْءٍ قَدِيْر) وقوله تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) وقوله تعالى (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيْدُ).
وخلاصة قول الفلاسفة -من أمثال الفارابي وابن سينا- في ذلك : إن العالم موجود عن الباري تعـالى – أو واجب الوجود بذاته – على سبيل الوجوب واللزوم ، لا بمعنى أنه لم يكن ثم كان ، بل بمعنى أنه وجب وجوده بوجود ذات البـاري ، فلم تتقدمه ذات الباري بالزمان ، وإنما تقدمت عليه بالذات ، تقدم العلة على المعلول . وحجتهم في هذا ، هي أن العالم إذا كان ممكنا في ذاته ووجد بغيره ، فقد وجب به ، وهذا حكم كل علة ومعلول ، وسبب ومسبب ، فإن المسبب أبدا يجب بالسبب ، فيكون جائزا باعتبار ذاته واجبا باعتبار سببه ، ثم السبب يتقدم المسبب بالذات وإن كانا معا في الوجود ، وذلك مثلما تقول تحركت يدي فتحرك المفتاح في كفي ، ولا يمكنك أن تقول تحرك المفتاح في كفي فتحركت يدي ، وإن كانت الحركتان معا في الوجود ( ) .
ولا نجد فرقا كبيرا بين رأي الفارابي وابن سينا في هذه النظرية غير أن ابن سينا يرى أن لكل عقل ثلاث تعقلات هي: تعقله لمصدره وعن هذا يصدر العقل الذي يليه، وتعقله لذاته من حيث كونه واجب الوجود بغيره، وعن هذا التعقل يصدر نفس الفلك، وتعقله لذاته من حيث كونه ممكنا في ذاته ويصدر عنه حيئنذ جرم الفلك. أما الفارابي فيرى بالثنائية فقط، هي تعني عنده المصدر والذات، ولكن في نهاية المطاف يصل كل منها إلى العقل العاشر (العقل الفعال)، فالخلاف بينهما في درجات التعقل لا في مضمون النظرية.
وقد اعترض على هذا الرأي (الكندي) فقرر بأن العالم حادث، لأنه من إبداع الفاعل الأول، والإبداع هو الخلق من العدم أو على حدّ قوله : " تأييس الأيسات عن ليس " ( ) . فالعالم محدَث من لا شيء ضربة واحدة في غير زمان ومن غير مادة ، وهذا كله صدر بفعل القدرة المبدِعة المطلقة من جانب علة فعالة أولى هي الله تعالى ، ووجود هذا العالم وبقاؤه ومدة هذا البقاء ، متوقفة كلها على الإرادة الإلهية الفاعلة لذلك، بحيث لو توقف الفعل الإرادي من جانب الله لانعدم العالم بضربة واحدة وفي غير زمان أيضا ( ) . ففسر الكندي كلمة "الخلق" من خلال فهمه لمعنى الآية (إِنَمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُوْلَ لَهُ كُنْ فَيَكُونْ)، وهذه الآية في رأي الكندي، كانت إجابة عن مافي قلوب الكفار من إنكارهم خلق السموات، ومرجع ذلك إلى ظنهم -أي الكفار- إلى أن فعل الإلهة يحتاج إلى مدة وزمان قياسا منهم على فعل البشر. وفي ذلك يقول الكندي: "ثم قال لما في قلوب الكافرين من الانكار من خلق السموات لما ظنوا من مدة زمان خلقها -قياسا على أفعال البشر- إذ كان عندهم عمل الأعظم يحتاج مدة أطول في عمل البشر، فكان عندهم أعظم المحسوسات أطولها زمانا في العمل. أنه جل ثناؤه، لا يحتاج إلى مدة لابداعه لأنه جعل (هو) من (لاهو)" ( ) .
والذي يميز الكندي عن المتكلمين هو طريقته في الاستدلال على حدوث العالم، فبينما نراهم يستخدمون طريقة إثبات حدوث الجواهر والأعراض تارة، وبرهان التسلسل والتطبيق نارة أخرى، نرى الكندي لا يقف عند هذا النمط من طرق الاستدلال، وذلك لأنه في نظره طريق جدلي. فبنى الكندي أدلته على ما أسماه (المقدمات الأولى الواضحة المعقولة بغير متوسط) وهي:
- أن كل الأجرام التي ليس منها شيء أعظم من شيء، متساوية.
- والمتساوية، أبعاد ما بين نهاياتها واحدة بالفعل والقوة.
- وذو النهاية ليس لا نهاية له.
- وكل الأجرام المتساوية، إذا زيد على واحد منها جرم، كان أعظمها، وكان أعظم مما كان من قبل أن يزاد عليه ذلك الجرم.
- وكل جرمين متناهي العظم، إذا جمعا، كان الجرم الكائن عنهما متناهي العظم، وهذا واجب في كل عظم وكل ذي عظيم.
- وأن الأصغر من كل شيئين متجانسين، بعد الأعظم منهما أو بعد بعضه( ) .
ويلاحظ أن رأي الكندي يشبه رأي أفلاطون في القول بفكرة الحدوث، وإن كانت الداوفع والغاية، ليست واحدة عند الإثنين، ذلك أنه فيلسوف إسلامي يرفض وجود شيء أيا كان قبل وجود هذا العالم الحادث. أما أفلاطون فيقول بشيه مادة سابقة على وجود هذا العالم، لينة وغير معينة، لا هي روحانية معقولة ولا مادية محسوسة، وهو يسميها (اللاموجود) أو (القابل) أي الذي يقبل فعل الممثل، بحيث ينشأ عن هذا الفعل عالمنا المادي المحسوس المتغير الزائل، وقد بين فكرته هذه في محاورة "طيماوس"( ) . ويقرر الكندي نفس ما رأي به أرسطو من التلازم بين الزمان، والحركة، والجرم، فعنده الزمان وجود الجرم، لأنه ليس للزمان وجود مستقل، والحركة هي حركة الجرم، وليس لها وجود مستقل كذلك، ولكن أرسطو لم يستطع أن يتخلص من وهم قدم الزمان الفلكي وقدم الحركة والمتحرك، بحيث لا نستطيع أن نعرف حقيقة استدلاله بينما نجد الكندي الفيلسوف الإسلامي يقرر بداية الزمان، مخالف في ذلك أرسط وهو إثباته يطبق مبدأ استحالة اللاتناهي الفعلي تطبيقا دقيقا، ولذلك كان مذهبه –أي الكندي- بعدا عن الوهم الذي وقع فيه أرسطو، كما أن هناك فجوة عميقة ما ذهب إليه أرسطو من أن الإله عنده فكرة مجردة لا شأن لها بالعالم، وبين عالم مادي، أما الكندي فإنه يرى أن العالم صنع إله حكيم وأنه منتهى لامره( ) .
وأما ابن رشد ، فقد أوضح رأيه في مسألة قدم العالم أو حدوثه في كتابه "فصل المقال" حيث قال: "وأما مسألة قدم العالم أو حدوثه، فإن الاختلاف فيها عندي بين المتكلمين من الأشعرية، وبين الحكماء المتقدمين بكاد يكون راجعا للإختلاف في التسمية، وبخاصة عند بعض القدماء، وذلك أنهم اتفقهوا على أن ههنا ثلاثة أصناف من الموجودات: طرفان، وواسطة بين الطرفين، فاتفقوا في تسمية الطرفين، واختلفوا في الواسطة ... فالمذاهب في العالم ليست تتباعد كل التباعد حتى يكفر بعضها ولا يكفر( ) .
وحاول ابن رشد أن يوفق بين رأي أرسطو في قدم العالم ورأي علماء الكلام، حيث ذهب إلى أن الخلاف بين الرأيين لا يعدو أن يكون لفظيا ، لأن الموجود على ثلاثة أنواع ، الأول : موجود محدَث، وهو ما يشاهد في العالم من الأشياء المتغيرة . والثاني : موجود قديم باتفاق الكل وهو الله تعالى . والثالث: موجود فيه شبه من الحادث والقديم وهو العالم ، فشبهه للحادث لاحتياجـه إلى علة ، وشبهه للقديم لوجوده من غير مادة سابقة ولا زمان ( ) . إذن فالعالم عنده محدَث من حيث أنه معلول (عن الله ) ، وأنه قديم باعتبار أنه وجد عن الله منذ الأزل (من غير تراخ في الزمن) ، أو بعبارة أخرى أن العالم بالإضافة إلى الله محدَث ، وأما بالإضافة إلى أعيان الموجودات فقديم ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن ابن رشد يعتقد بقدم العالم بالمعنى الفلسفي ( ) .
وأما مراتب الموجودات فيرى ابن رشد أن أعلاها الذات الإلهية ثم تليها الأعراض المجردة (عقول الأفلاك)، ثم الصور الخالصة، ثم الصورة الجوهرية أو المادية وأدناها الهيولانية، وهي كلها تؤلف سلسلة واحدة متصلة بعض أجزائها فوق بعض( ) .
والله أعلم بالصواب
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
0 komentar:
Post a Comment