Friday, June 4, 2010
موقف العلماء من علم الكلام
موقف العلماء من علم الكلام
الدكتور/ كمال الدين نور الدين مرجوني
لقد سجل علماء المسلمين -قديماً وحديثاً- موقفهم تجاه علم الكلام والمتكلمين ، فمنهم من يعارض علم الكلام والمتكلمين فنقدوا مناهجهم وشددوا التنكير عليهم وعدوهم من الخارجين عن منهج القرآن في إثبات العقائد، وقد اتفقت آراؤهم جميعا حول خطورة وجود المتكلمين – والفلاسفة من باب أولى – حيث إنهم كانوا وبالا على حركة التفكير الإسلامي الأصيل النابع من القرآن والسنة، وأن علم الكلام زاد من الأفكار التي أوغلت في تشكيك المسلمين. ومنهم من يناصر علم الكلام والمتكلمين ويذكرون فيها الخيرات والفوائد المتنوعة منها: معرفة أصول الدين معرفة علمية قائمة على أساس من الدليل و البرهان. والقدرة على إثبات قواعد العقائد بالدليل والحجة . والقدرة على إبطال الشبهات التي تثار حول قواعد العقائد.
هذا، وأرى من المناسب أن أذكر أقوال بعض العلماء في علم الكلام وحكم الاشتغال به، ويمكن إرجاع أقوالهم فيها إلى رأيين، وهما:
الرأي الأول:
ذهب عدد من العلماء إلى القول بجواز الاشتغال بعلم الكلام، كابن عساكر، والبياضي، والغزالي، وغيرهم. واستدلوا بأدلة منها:
إن الأدلة التي استدل بها أصحاب ليست على العموم، فالمنهي عنه في الآيات والأحاديث إنما الجدال والمراء الذي لا يتأتى به الفائدة، أما المناظرة لإظهار وجه الصواب من الخطأ فلا يمنع منها.
ويقول الإمام البياضي: " فأما المناظرة فيه على وجه إظهار الحق فلا كراهية فيه، بل هي المأمور به في قوله تعالى: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ – النحل : 125 –، وفي موضع آخر يقول الغزالي: " وإنما مقصوده – علم الكلام – حفظ عقيدة أهل السنة، وحراستها عن تشويش أهل البدعة، فقد ألقى الله – تعالى – إلى عباده على لسان رسوله عقيدة هي الحق، على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم. كما نطق بمعرفته القرآن ، ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أمورا مخالفة للسنة فلا حا جة بها، وكادوا يشوشون عقيدة الحق على أهلها، فأنشأ الله تعالى طائفة من المتكلمين، وحرك دواعيهم لنصرة السنة بكلام مرتب يكشف عن تلبيسات أهل البدع المحدثة، على خلاف السنة المأثورة، فمنه نشأ علم الكلام وأهله " ( ) .
إن الصحابة لم يشتغلوا بهذا العلم، واكتفوا بما ورد في الكتاب والسنة ، لأن المكابرة، وإثارة الشكوك، وتمويه الحقائق بشبه تلبسها لباس الحق في العقيدة، لم تكن ظاهرة حينذاك، فهي إذا لم تكن في حاجة إلى هذا العلم، لمقارعتها ومجادلتها بالأدلة العقلية لإثبات العقائد.
وقد أشار إلى هذا الكلام أحد المتكلمين بما ينسب إلى أبي حنيفة رضي الله عنه:" وأصحاب رسول الله إنما لم يدخلوا فيه لأن مثلهم كمثل قوم ليس بحضرتهم من يقاتلهم فلا يتكلفون السلاح، ونحن قد ابتلينا بمن يطعن علينا، فلا يسعنا ألا نعلم من المخطئ منا ومن المصيب ؟ وألا نذب عن أنفسنا ... " ( ).
وهذا الفريق يرى أن علم الكلام هو أعلى مرتبة في العلوم ... إذ موضوعه أعم الأمور وأعلاها، وغايته أشرف الغايات وأجداها ودلائله يقينية يحكم بها صريح العقل ... وقد تأيدت بالنقل وهي الغاية في الوثائق وهذا هي جهات شرف العلم لا تعدوها ... فهو إذن أشرف العلوم ( ). وفي موضع آخر صرح الآمدي أهمية علم الكلام فقال: "وأشرف العلوم إنما هو العلم الملقب بعلم الكلام" ( ) . وقال الجاحظ: "لولا مكان المتكلمين لهلكت العوام من جميع الأمم"( ) .
ويرى الألوسي ضرورة استخدام الحجج العقلية في إثبات العقيدة كما بينه في تفسيره لقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ – البقرة : 165 –: " وفي الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية ، وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله ، وربما أشارت إلى شرف علم الهيئة، ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا) بيان لحال المشركين بعد بيان الدلائل الداله على توحيده " ( ) .
الرأي الثاني:
وذهب بعض العلماء إلى تحريم الاشتغال به مطلقا، كابن قتيبة، والخطابي، والأئمة الأربعة وغيرهم. واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
وتمسك القائلون بالتحريم بالأدلة من الكتاب والسنة ، ومن الآيات الدالة على النهي عن الجدال والمراء في الدين والخوض في المتشابهات من نحو قوله – سبحانه وتعالى – : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ – آل عمران : 7 – ، وقوله تعالى : مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا – غافر – ، وقوله تعالى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ – النساء : 59، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذاته فتهلكو ... ) ( )( ) .
ومنها أن الصحابة لم يشتغلوا بهذا العلم مع أنهم أعرفهم بهذا الدين، وبذلك فهم الصحابة كل ما طلب منهم الإيمان به تصديق جازم، وتسليم كامل لجميع نصوص العقيدة من آيات منزلة من عند الله أو أحاديث واردة عن رسول الله ، دون أن تثار لديهم أية تساؤلات مريبة حول آيات وأحاديث الصفات من تشبيه، أو تعطيل، أو تأويل .
ومن هنا يستاءل شارح الطحاوية ابن أبي العز قائلا: " وكيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة، إنما يتلقاه من قول فلان، وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله، لا يتلقى تفسير كتاب الله من أحاديث الرسول، ولا ينظر فيها، ولا فيما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان، المنقول إلينا عن الثقات النقلة " ( ).
وفي هذا يقول الإمام الشافعي: " كل العلوم سوى القرآن مشغلة ، إلا الحديث وإلا الفقه في الدين، العلم ما كان فيه قال: حـدثنا، وما سوى ذالك وسواس الشياطين " ( ) . ويذم الإمام الشافعي علم الكلام، حتى أنه يجعل الاشتغال بعلم الكلام من أعظم الكبائر، فيقول : " لأن يلقي الله عز وجل العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من أن يلقاه بشيء من علم الكلام "، فهو يلي الشرك من حيث عظم الذنوب وأشدها ... والشافعي كان سيء الظن بعلم الكلام وبسوء نتائجه فقال محذرا من الاشتغال به : " لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه فرارهم من الأسد "، وأفتى بأن يضرب أصحاب الكلام بالجريد ... ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام " ( ) .
وأورد البيهقي في كتابه "مناقب الشافعي" معاقبة الإمام الشافعي لمن اشتغل بعلم الكلام: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر، ينادي عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام ( ) . ويقول ابن تيمية: "إن الشافعي من أعظم الناس ذما لأهل الكلام، ولأهل التغيير، ونهيا عن ذلك، وجعلا له من البدعة الخارجة عن السنة، ثم إن كثيرا من أصحابه عكسوا الأمر حتى جعلوا الكلام الذي ذمه الشافعي هو السنة وأصول الدين الذي يجب اعتقاده وموالاة أهله، وجعلوا موجب الكتاب والسنة الذي مدحه الشافعي هو البدعة التي يعاقب أهلها" ( ) . وقد روى الحافظ ابن الجوزي في كتابه "مناقب الإمام أحمد بن حنبل" بإسناده إلى الإمام أحمد عنه قال : "لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا إلا ما كان في كتابه الله أو حديث رسول الله أو عن أصحابه، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود( ) . وقال الأوزاعي: "إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل ومنعهم العمل"( ).
وفي العصر المعاصر جاء الشهيد سيد قطب مبينا خطأ منهج المتكلمين فقال: "اشتغل الناس بالفلسفة الإغريقية وبالمباحث اللاهوتية التي تجمعت حول المسيحية والتي ترجمت إلى اللغة العربية، ونشأ عن هذا الا شتغال الذي لا يخلو من طابع الترف العقلي، انحرافات واتجاهات غربية على التصور الإسلامي الأصيل، حتى وجد بين المفكرين المسلمين من فتن بالفلسفة الإغريقية، فحاولوا إنشاء علم الكلام على نسق المباحث اللاهوتية مبنية على منطق أرسطو، ولما كانت هناك جفوة أصلية بين منهج الفلسفة ومنهج العقيدة، فقد نشأ من هذه المحاولات تخليط كثير، شاب صفاء التصور الإسلامي، وصغر مساحته وأصابه بالسطحية. ذلك مع التعقيد والجفاف والتخليط، مما جعل مباحث علم الكلام غريبة غربة كاملة على الإسلام " ( ).
هذا موجز الأقوال والأدلة التي تمسك بها القائلون بتحريم الاشتغال بعلم الكلام.
والحقيقة –كما يرى الإمام الغزالي– أن علم الكلام تارة يجر منفعة وتارة يجر مفسدة، فينتفع به حين يكون استعماله سليما، وهو عند دفع شبهات خصوم الدين، وأما عند إثارة الشبهات فمضرة لا جدوى فيه، ومما يدل على ذلك قوله: " إن فيه – علم الكلام – منفعة وفيه مضرة فهو باعتبار منفعته في وقت الانتفاع حلال أو مندوب إليه أو واجب كما يقتضيه الحال وهو باعتبار مضرته في وقت الاستضرار ومحله حرام، أما مضرته فإثارة الشبهات وتحريك العقائد، وإزالتها عن الجزم " ( ) .
والجدير بالذكر هنا موقف الإمام الشوكاني المتميز من علم الكلام، حيث يرى أنه من المستحسن التعمق في القرآن والسنة قبل الاشتغال بعلم الكلام، ونصح طالب العلم في كتابه (أدب الطلب) بدراسة هذا العلم بعد إتقانه لعلم أصول الفقه، والتفسير، والحديث، وقال: "فإنه إذا فعل كل هذا عرف الاعتقادات كما ينبغي، وأنصف كل فرقة بالترجيح أو التجريح على بصيرة، وقابل كل قول بالقول أو الرد على حقيقة ... على أنه يتعلق بذلك فائدة وزيادة بصيرة في علوم أخرى، كعلم التفسير، وعلم تفسير الحديث، فإذا بلغت إلى ذلك علمت ما في العلم بهذا الفن من الفائدة"( ). ولكن بعد تجربته مع علم الكلام يقرر أن هذا العلم في النهاية يؤدي إلى الحيرة، وقال: "واعلم أني عند الاشتغال بعلم الكلام، وممارسة تلك المذاهب والنحل، لم أزدد بها إلا حيرة، ولا استفدت منها إلا العلم بأن تلك المقالات خزعبلات، فقلت إذ ذاك مشيرا إلى ما استفدته من هذا العلم:
وغاية ما حصلته من مباحثي ومن نظري من بعد طول التدبر
هو الوقف ما بين الطريقين حيرة فما علم من لم يلق غير التحير
على أنني قد خضت منه غماره وما قنعت نفسي بدون التبحر "( ) .
وعلى أية حال – من وجهة نظرنا – أن علم الكلام هو العلم الذي يحتل مكانة هامة بين العلوم الإسلامية، بوصفه أحد العلوم التي قامت أساسا للدفاع عن العقيدة الإسلامية في مواجهة الشبهات التي أثارتها الطوائف والأديان غير الإسلام. حتى لا يمنعنا القول بأن علم الكلام على مدى تاريخه الطويل يتسع أحيانا ليفسح مقدارا أكبر من العناية والاهتمام للرد على المخالفين للإسلام وعقيدته. فغايتهم من تأويل القرآن هو الدفاع عن العقيدة الإسلامية، وتنـزيه المولى عز وجل عن كل نقص وعن كل تشبيه، ووصفه بالكمال المطلق. بالإضافة إلى ما ذكره ابن تيمية أن: "السلف لم يذموا جنس الكلام، فإن كل آدمي يتكلم، ولا ذموا الاستدلال والنظر والجدل الذي أمر الله به رسوله، والاستدلال بما بينه الله ورسوله، بل ولا ذموا كلاما هو حق، بل ذموا الكلام بالباطل، وهو المخالف للكتاب والسنة، وهو المخالف للعقل أيضا، وهو الباطل، فالكلام الذي ذمه السلف هو الكلام الباطل، وهو المخالف للشرع والعقل، ولك كثيرا من الناس خفى عليه بطلان هذا الكلام"( ).
وفي موضع آخر يقول ابن تيمية: "والسلف إذ ذموا أهل الكلام، وقالوا: علماء الكلام زنادقة وما ارتدى أحد بالكلام فأفلح، فلم يريدوا به مطلق الكلام، وإنما هو حقيقة عرفية فيمن يتكلم في الدين بغير طريقة المسلمين" ( ) . كما أنه أشار إلى الفرق بين منهج المتقدمين من أهل الكلام ومتأخريهم، بأن المتقدمين يخلطون بأصول من الكتاب والسنة بخلاف أكثر متأخريهم، فإنهم لم يذكروا إلا الأصول المبتدعة، وأعرضوا عن الكتاب والسنة وجعلوهما إما فرعين أو آمنوا بهما مجملا أو خرج بهم الأمر إلى نوع من الزندقة ( ) .
والجدير بالذكر هنا أنه قد رجع العديد من أئمة المتكلمين إلى عقيدة السلف في إثبات الصفات وغير ذلك، ونهوا عما أحدثوه من قبل من كلام في دقائق العقيدة، وأعلنوا التوبة منه والرجوع عنه.
وفي هذا يقول الرازي – في وصيته التي وردت في كتاب: عيون الأنباء - : "ولقد اخترت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله تعالى ، ويمتنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات. فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده، ووحدته وبراءته عن الشركاء في القدم والأزلية، والتدبير والفعالية ، فذاك هو الذي أقول به وألقى الله به ... والذي لم يكن كذلك أقول ديني متابعة محمد سيّد المرسلين"( ) . وقال في كتابه أقسام اللذات الذي صفه في آخر عمره:
نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أنْ جمعنا فيه قيلَ وقالوا
فكم قد رأينا من رجالٍ ودولة فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علا شرفاتها رجال فزالوا والجبال جبال ( ).
وقال الرازي: " لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً " وعاد إلى الطريقة القرآنية، وضرب مثلاً بمنهج القرآن في الصفات: " ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ، أقرأ في الإثبات: اَلرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَي - طه: 5 -، إِلَيْهِ يَصْعُدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ - فاطر: 10 - . وأقرأ في النفي : لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءُ - الشورى: 11 -، وَلاَ يُحِيْطُوْنَ بِهِ عِلْماً - طه: 110 - ، ثم قال : " من جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي " ( ).
ومن أقوال إمام الحرمين الجويني: " يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به"، " لقد جربت أهل الإسلام وعلومهم، وركبت البحر الأعظم، وغصت في الذي نهوا عنه، كل ذلك في طلب الحق، والهرب من التقليد، والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره، فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص، فويل لابن الجويني" ( ). " والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقلا إتباع سلف الأمة، فالأولى الإتباع، وترك الابتداع ( ). وقد ذكر ابن تيمية توبة الجويني: "وها أنا أموت على عقيدة أمي، وروي على عقيدة عجائز نيسابور " ثم علق ابن تيمية على ذلك القول: "ولهذا يقول مثل هؤلاء: عليكم بدين العاجائز، فإن تلك العقيدة الفطرية التي للعجائز، خير من هذه الأباطيل، التي هي من شعب الكفر والنفاق، وهم يجعلونها من باب التحقيق والتدقيق" ( ) . أما أبو حامد الغزالي، فإنه لم يجد له مغنى في – الكلام –، وكان ذلك مما بعثه على الرجوع في آخر عمره إلى ما كان يرغب عنه، ويرى أنه لا شيء فيه، فأقبل على حفظ القرآن، وسماع الصحيحين، فيقال أنه مات وصحيح البخاري على صدره، ولكنه توفي قبل أن يظهر أثر ذلك في كتبه. وقد ذكر الغزالي الكلام والخلاف فيه: "فاسمع هذا ممن خبر الكلام، ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة، والتغلغل فيه إلى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك ... وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود" ( ) . وفي موضع آخر قال: "وإذا تركنا المداهنة لصرحنا بأن الخوض في هذا العلم حرام، لكثرة الآفة فيه" ( ) .
ويقول متكلم آخر أبو الوفا ابن عقيل تـ (513هـ) لبعض أصحابه: "أنا أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رأيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى، فبئس ما رأيت ...، وقد أفضى الكلام بأهله إلى الشكوك، وبعضهم إلى الإلحاد، تشم روائحه من فلتات كلامهم ... ولقد بالغت في الأصول طول عمري، ثم رجعت القهقري إلى مذهب المكتب" ( ) .
وأما عن مؤسس المذهب الأشعري (أبو الحسن الأشعري)، فالحقيقة أنه رجع بنفسه عن منهج الكلام وعن اعتقادات الأشاعرة، وأقر بانتسابه إلى مذهب الحق الذي يمثله إمام أهل السنة أحمد بن حنبل في عصره وصنف كتابه الأخير على هذا المذهب وهو "الإبانة عن أصول الديانة".
وهذا الشهرستاني يضرب على الوتر نفسه، ويقرر أنّه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين بعد طول بحث إلا الحيرة والندم حيث يقول :
لعمري لقد طفت المعاهد كلّها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم
ثم قال : "عليكم بدن العجائز ، فإنه أسني الجوائز" ( ) .
فكل هؤلاء الأئمة هم من أجلّ أئمة المتكلمين من الأشاعرة، قد ذكروا طريقتهم السابقة، ولو أنها كانت الحق لما زيفوها، وأبانوا عوارها ونقصها، وجعلوا في خاتمة عمرهم يتبرؤون منها … فياليت المحْدَثين من المنتسبين لفكرهم والمقلدين لهم يعتبرون بهذه الحال .
أما عن متكلمي المعتزلة، فإنه لم يعرف عن أحدهم أنه تاب وأناب، وما هذا إلا لإيغالهم في الباطل، وعدم توجه نياتهم لطلب الحق أصلاً، وأنهم رؤوس البدعة، والمنشؤون لها.
وقال ابن أبي الحديد – وهو من شعراء الشيعة – توفي سنة ( 655هـ) :
سافر فيك العقول فما ربحت إلا عنا السفر
رجعت حسري وما وفقت لا على عين ولا أثر
وقال أيضا :
طلبت جاهدا خمسين عاما فلم أحصل على برد اليقين
فهل بعد الممات بك اتصال فأعلم غامض السر المصون ( ) .
______________________________________________________
المراجع:
( ) الغزالي ، المنقذ من الضلال ، ص 13 .
( ) البياضي ، إشارات ، ص 22 .
( ) الإيجي ، كتاب المواقف ، ص 41 .
( ) الآمدي ، غاية المرام ، ص 3 .
( ) الجاحظ ، الحيوان ، 4/206 ، مطبعة الحلبي ، القاهرة ، ط2/بدون تاريخ ، تحقيق : عبد السلام هارون .
( ) الألوسي ، تفسير روح المعاني ، 2/33 .
( ) أخرحه الهيثمي في : مجمع الزوائد (1/81) ، رواه الطبراني في الأوسط ، وفيه وازع بن نافع وهو متروك .
( ) انظر : البياضي ، الإشارات ، ص 20 .
( ) ابن أبي العز ، شرح العقيدة الطحاوية ، 1/221 ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، ط11/1997م ، تحقيق : د. عبد الله بن عبد المحسن التركي وشعيب الأرناؤوط .
( ) انظر : ابن أبي العز ، شرح العقيدة الطحاوية ، 1/18 ، طبقات السبكي (1/297) ، السيوطي ، صون المنطق والكلام ، ص 147 .
( ) الغزالي ، إحياء علوم الدين ، 1/95 ، دار المعرفة للطباعة والنشر ، بيروت .
( ) انظر : 1/462 من الكتاب ، دار التراث ، ط1/ 1391هـ .
( ) ابن تيمية ، الاستقامة ، 1/15 .
( ) انظر: ابن الجوزي، مناقب الإمام أحمد بن حنبل، ص 70 – 156، المكتبة السلفية، القاهرة، 1962م .
( ) اللالكائي ، شرح أصول اعتقاد أهل السنة، 1/145.
( ) سيد قطب، خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، ص 11- 13 باختصار، دار الشروق، مصر ، ط7/1980م.
( ) الغزالي ، قواعد العقائد ، ص 99 ، عالم الكتب .
( ) الشوكاني ، أدب الطلب ومنتهى الأرب ، مكتبة الساعي ، الرياض ، تحقيق : محمد عثمان الخشت ، بدون تاريخ .
( ) الشوكاني ، التحف في مذاهب السلف ، ص 10 ، ضمن الرسائل السلفية ، دار الكتب العلمية ، 1348هـ .
( ) ابن تيمية ، الفرقان بين الحق والباطل ، ص 110 ، ضمن الرسائل ، طبعة محمد علي صبيح ، القاهرة .
( ) ابن تيمية ، مجموع الفتاوى ، 12/460 -461 .
( ) راجع : ابن تيمية ، درء تعارض العقل والنقل ، 1/44 -46 . مجموع الفتاوى له ، 10/366 – 367 .
( ) عن القائد في تصحيح العقائد، ص 74.
( ) الرازي ، كتاب اعتقادات فرق المسلمين ، ص 23 .
( ) ابن تيمية ، الفتوى الحموية الكبرى ، ص 7 .
( ) ابن الجوزي ، تلبيس أبليس ، ص 85 .
( ) الجويني ، العقيدة النظامية ، ص 32 – 33 ، مطبعة دار الشباب ، مصر ، ط1/1398هـ ، تحقيق : أحمد حجازي.
( ) ابن تيمية ، بيان تلبيس الجهمية ، 1/122 ، مطبعة الحكومة السعودية بمكة المكرمة ، ط1/1392هـ ، تحقيق : محمد بن عبد الرحمن بن قاسم .
( ) الغزالي ، إحياء علوم الدين ، 1/97 .
( ) الغزالي ، فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ، ص 90 ، مطبعة الحلبي ، ط1/1381هـ .
( ) ابن الجوزي ، تلبيس إبليس ، ص 84 -85 . عبد الرحمن بن شـهاب الحنبلي ، ذيل طبقات الحنابلة ، 3/152 ، دار المعرفة ، بيروت – لبنان ، بدون تاريخ .
( ) الشهرستاني ، نهاية الإقدام في علم الكلام ، ص 3 - 4 .
( ) ابن الوزير اليمني ، الروض الباسم ، 2/167 .
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
0 komentar:
Post a Comment