Wednesday, July 7, 2010
تهافت الشيعة الباطنية في السمعيات
تهافت الشيعة الباطنية في السمعيات
الدكتور/ كمال الدين نور الدين مرجوني
من الصعب علينا أن نقطع موقف الباطنية فيما يتعلق بهذه المسألة، وذلك لعدم وضوح آرائهم، وكثرة تأويلاتهم فيها ، فلذلك حاولنا أن ننقل قدرا كبيرا من النصوص والشواهد المتعلقة برأيهم في البعث والمعاد . وهذه الشواهد هي التي ستثبت حقيقة موقفهم من السمعيات ، فهذه الشواهد أيضا هي التي ستؤكد صحة ما ننسبه إليهم.
ومن الجدير بالإشارة إلى أن القيامة عند الإسماعيلية الباطنية على ثلاثة أنواع:
1) القيامة الأولى، وهي الموت أى قيامة الإنسان عندما تغادر نفسه جسده ، وتعود إلى الكل الذي انبثقت منه، وتعرف هذه العودة بالمعاد . واستندوا على ذلك بقول النبي : » من مات قامت قيامته « ( ) .
2) القيامة الوسطى عندما يتم الدور بأحد الأئمة ، ويقيم هذا الإمام دورا جديدا .
3) القيامة الكبرى عند انتهاء الكور وقيام الساعة ، والبعث والحساب ( ) .
وقد نص على ذلك صاحب كتاب (كنـز الولد) ، فقال : " وأما محمد بن إسماعيل فهو متم شريعته ، وموفيها حقوقها وحدودها ، وهو السابع من الرسل ، وبيان ذلك في أدعية مولانا المعز السبعة (وهو الذي يشهد) له وللقائم محمد بن عبد الله المهدي ، لأنه قائم القيامة الوسطى ، وقائم القيامة الأولى مولانا أمير المؤمنين ، وقائم القيامة الكبرى صاحب الكشف في أذانه بقوله : أشهد أن لا إله إلا الله مرتين ، وأشهد أن محمدا رسول الله مرتين ، لأن الخلق يشهدون وهو يشهد لمتم دوره ، وشريعته ، ومنهاجه ، وهو منسوب إلى عبد الله بن ميمون في التربية " ( ) . ويوضح الداعي علي بن الوليد (تـ612هـ) أن قيام قائم الزمان من علامات القيامـة الكبرى ، إذ يقول : " إن قيام قائم القيامة على ذكره السلام ، والقول به إيجاب للقيامة لا نفى ، وهو من علاماتها وأشراطها " ( ) .
والملاحظة العامة يمكننا القول بأنه لا نكاد نجد نسقا فكريا متكاملا لآراء الباطنية في البعث والمعاد ، فهناك نصوص تشير إلى إنكارهم الأمور الأخروية ، ذلك لتأويلها بالرموز والإشارات التي لا أساس لها من الصحة ، ولا تمت إلى الإسلام بشيء ، وانطلاقا من هذه التأويلات فيمهد لنا الطريق إلى اتهامهم بإنكار البعث والمعاد . ومن جانب آخر نجد هناك نصوصا كثيرة تدلنا على أنهم لا ينكرون البعث والمعاد ، ذلك لإثباتهم معاد الروح دون الجسم .
وعلى أية حال ، فإن أغلب الظن عنـدي هو أن الإسماعيلية الباطنية لا ينكرون البعث والمعاد ، كما يتضح فيما بعد من الشواهد والنصوص التي منعتنا من اتهامهم بإنكار البعث والمعاد . وقبل الحديث عن تأويلهم للأمور الأخروية ، فمن الضرورة الإشارة إلى موقفهم من التناسخ ، علما بأن هذه المسألة – أى التناسخ – هي التي ستحدد موقف الباطنية من البعث والمعاد ، ولهذا ، فإن السؤال الذي يطرح بنفسه: هل يعتقد الإسماعيلية الباطنية بالتناسخ أم لا ؟ ( ) .
والواقع أن الباحثين المعاصرين اختلفوا في حكاية آراء الباطنية في مسألة التناسخ إلى رأيين :
الرأى الأول :
ذهب إلى أن الإسماعيلية الباطنية لا يعتقدون بالتناسخ ، وخاصة في الدولة العبيدية التي دافع عن عدم إيمان حكامها بالتناسخ من الدعاة الإسماعيليين . وممن ذهب إلى هذا الرأي الدكتور محمد كامل الحسين ( ) ، والدكتور عبد الرحمن بدوي ( ) . والدكتور علي سامي النشار ( ) .
الرأى الثاني :
ذهب بعضهم إلى أن الإسماعيلية الباطنية يؤمنون بالتناسخ . وممن ذهب إلى هذا الرأي الدكتور محمد أحمد الخطيب ( ) ، والدكتور صابر طعيمة ( ) . وقد أكد بذلك الدكتور أحمد عرفات القاضي ، فقال : " الحقيقة أن الباطنية بعامة والإسماعيلية بخاصة يقرون بالتناسخ " ( ) . ثم يرى أن الرأى الأول الذي ينفي عن الإسماعيلية القول بالتناسخ ، في الحقيقة مغترّ بقول المؤيد الداعي هبة الله الشيرازي (تـ470هـ) الدال على إنكار المذهب الإسماعلية بالتناسخ ( ) . فالدافع للمؤيد بذلك الإنكار هو خوفه من جماهير المسلمين في ذلك الحين ، وخاصة أنه من كبار الدعاة في الدولة الفاطميـة ، وكان عليه أن يراعي شعور الناس ، لأنه لو صرح بالتناسخ لثارت عليه الجماهير ( ) . وهذا ما حدث للحاكم بأمر الله ، كما يحدثنا عنه ديلاسي أوليري بقوله : " وفيما حول نهاية حكمه قدم إلى مصر عدد من المعلمين الفرس من ذوي آراء في التناسخ وفي رؤية الله ، فلما أعلن ذلك في الناس قامت ضجة ، وهرب المعلمون إلى سوريا ، واختفى الحاكم بعد ذلك بقليل ، فقال البعض أنه قتل ، وقال آخرون لجأ إلى دير مسيحي ، واعترف به بعد ذلك راهبا ، واعتقد آخرون أنه صعد إلى السماء ، وظهر أكثر من مدّع يدّعي أنه هو الحاكم عاد من مخبئه " ( ) . وقد قرر بهذا من قبل القدماء من أمثال الإمام الغـزالي في ( فضائح الباطنية ) ( ) ، والإمام المقـدسي في ( الرد على الرافضة ) ( ) . فقالوا : إن الإسماعيلية الباطنية يعتقدون بالتناسخ .
هكذا ما يقوله الباحثون المعاصرون ، فمنهم من يستبعد عن الباطنية القول بالتناسخ ، ومنهم من أقر بأن الباطنية يقولون بالتناسخ . وأما مؤرخو الفرق والملل كالأشعري ، والبغدادي ، والشهرستاني ، فتوقفوا ، حيث لم توجـد أية إشارة تفيد بأنهم يقولون بأن الإسماعيلية تعتقد بالتناسخ ( ) . ولعلهم يتوقفون في ذلك لعدم وضوح موقف موحّد للباطنية تجاه التناسخ ، أو لنقص المادة أمامهم . ولذلك ترددوا فيما إذا كان الإسماعيلية معتقدين بالتناسخ أو لا يعتقدون به .
وعلى أية حال ، فبعد رجوعنا إلى المصادر الإسماعيلية المتوفرة لدينا ، فتبين لنا أن أكثرهم ينفون التناسخ ، ويتجلى ذلك من أقوالهم ونصوصهم : وقد نقلنا سابقا قول الداعي هبة الله الشيرازي فلا نكرر ما قاله . ويحدثنا الوزير يعقوب بن كلّس (تـ380هـ) أن الإمام المعز لدين الله لعن الرجل المعتقد بالتناسخ ( ) . ويقول الداعي حميد الدين الكرماني (تـ411هـ) نافيا لقول أهل التناسخ : " ولا تعلق للأنفس بجثة أخرى ، لإستحالة الأمر فيه مما يقع به العلم ، إن تعلقها وانتقالها محال باطل " ( ) . وقد نقل هذا الكلام الداعي إدريس عماد الدين (تـ872هـ) في كتابه "زهر المعاني" ، ثم أكد على عدم اعتقاد الإسماعيلية بالتناسخ ، وهذا نص قوله : " فالذين يقولون إن النفوس تنتقل إلى أشخاص أخر ، فتكون مثابة فيها بنعم الدنيا ، ومعاقبة بماتكون فيه من النغص والبؤس والآلام ، نعوذ بالله من الاعتقاد المردي في مهاوي الضلال ... فالنفوس ليست تخرج من أجساد إلى أجساد كما يظن الجاهلون " ( ) .
وفي موضع آخر يؤكد الداعي اليمني علي بن الوليد (تـ612هـ) على عدم اعتقاد الباطنية بالتناسخ ، بل يكفر من اعتقد به ، إذ يقول ردا على الإمام الغزالي إن التناسخ : " باطل ومحال ، واعتقاده كفر وضلال ، وقد ورد عن موالينا الأئمة الطاهرين سلام الله عليهم وعن دعاتهم نضر الله وجوههم من الرد على أهل هذه المقالة وإبطالها " ( ) . والواقع أن هذا القول يدفع مايراه الرأى الثاني من أن الإسماعيلية الباطنية ينكرون عقيدة التناسخ في الدولة الفاطمية بمصر ، لخوفهم الإعلان به في أوساط المسلمين فيها . ومن هنا يمكن القول بعدم صحة القول بأن الدعاة الذين ينفون التناسخ مقتصرا على الدولة الفاطمية بمصر .
ومما يؤيد ما قلناه ، أنه قد جاء قبله الداعي إبراهيم بن الحسين الحامدي (تـ557هـ) – وهو من كبار الدعاة في اليمن – منكرا التناسخ ، وذلك في حديثه عن آراء المذاهب والفرق في البعث إذ قال موضحّا بأن : " فرقة تقول بأن النفوس والأجسام تبعث للثواب والعقاب جميعا ، وحملوا ذلك القدرة بغير علم ، ولا هدى ، ولا كتاب منير . وفرقة من الفلاسفة يرون أن النفوس الخبيثة المتقهقرة تفارق أجسامها ، وتصير في حيز فيما بين الأثير والزمهريرمعذبة تنظر إلى الملأ الأعلى الذي كان يكون إليه معاد ، ما لو عملت صالحا فلا تقدر على الصعود إليه ، وتنظر إلى العالم الذي فارقته ، فلا تقدر على الرجوع إليه ، وعذابها أنه تبرأ لها ، أنها تحرق ، وتغرق ، وتضرب ، وتسقط ، وتقتل ، وتتألم ، وتمرض ، وهذا لا نهاية حقيقة له وللمعنوية ، وإنما فرارهم من التناسخ وتكرر الأجسام . وفرقة أهل الغلو والتناسخ والدهرية يرون أن النفوس الطائعة والعاصية لا تفارق أجسامها حتى قد هيّء لهم أجسام يسكنونها ، فيكون المطيع في قميصه الآخر أعلى وأشرف ، وأعلى وأعلم مما كان فيه أولا ، وهذا هو عين الجور وعجز الصانع القادر ، إذا كان يعود بعد الحياة ميتا ، وبعد العلم جاهلا ، وبعد القدرة ضعيفا ، نعوذ بالله من العمي . والأجسام التي تكون مهيأة لأهل العذاب ، يكون هذا يموت ويحيا في القالب الذي هيّء له ، هذا يقولون فطس ، وهذا عطس ، وما لعدل هاهنا في الجسم المهيّء لعذابه ، وهو نفس نماء حتى يعذب بعذاب الساكن الذي يحل فيه " ( ) .
وبناء على هذا ، يدافع الدكتور مصطفى غالب بشدة عن هذا الموقف الإنكاري ، ذلك بصفته باطني معاصر ، فينفي المزاعم القائلة بإيمان الإسماعيليين بالتناسخ معتمدا في ذلك على ما كتبه الداعي حميد الدين الكرماني (تـ411هـ) ، ثم رأى أن المعتقدين بالتناسخ هم بعض غلاة الشيعة . وذلك لقولهم إن الأرواح تنسخ في أربعة أجناس هي ، النسوخ : أى نسخ بدن إنسان إلى إنسان آخـر . المسوخ : أى نقل أرواح البشر إلى البهائم والسباع والطيور . الفسوخ : أى نقل الأرواح إلى دواب الأرض الحقيرة كالحيات والعقارب والخنافس والدود والسلاحف . والرسوخ : أى نقل أرواح البشر إلى أنواع الشجر والنبات والمعادن ( ) .
وأما المقرون بالتناسخ من الإسماعيلية الباطنية فلا نجد – على حسب المصادر المتوفرة لدينا – إلا الداعي طاهر بن إبراهيم بن الحارثي اليماني حيث ذهب إلى القول بالتناسخ ، وقد نص قوله في ذلك : " ... وأما هؤلاء الأضداد ونفوسهم ، فإن نفس الواحـد منهم عند موته تشيع في جسمه ، ويصيران شيئا واحدا ، ويستحيلان إلى التراب ، ثم يصعدان بخارا ، ويعودان مطرا ، ويحدث من ذلك المطر البرقات المهلكات ، والسيول المخربات ، ... وينصبان إلى الأرض وييصيران نباتا وحيوانا ، فيغتذيه من يصلح له الاعتذاء ، ويستقبل بهما العذاب ، وهي الأدراك السبعة :
- فأولها : درك الرجس ، وهي قمص البشر ، فيصير ذلك المغتذي به نطفة يرتقي إلى أن يخرج من بطن أمه جنينا في قميص من قمص الزنج والزنات والبربر والترك وغيرهم من الذين لا يصلحون لمخاطبة الحق ، ولا يزال ينتقل من قميص إلى قميص ، إلى أن يستكمل في كل نوع من أنواع هذا الدرك سبعين قميصا .
- ثم خرج بالمزاج والممتزج إلى قمص الوكس ، وهو الدرك الثاني المماثل للتركيب البشري ، وهم القرود والدب والنسناس والغول وأمثال ذلك ، فيسلك به في كل نوع من هذه الأنواع سبعين قميصا ، إلى أن يستوفيها جميعها ، وهو في جميع هذه القمص الوكسة ، يتحقق أنه في حال العذاب .
- ثم يسلك به قمص العكس ، وهو الدرك الثالث ، وهم سباع البر والبحر ، كالأسد والذئاب وأمثالهم ، إلى أن يستكمل في كل نوع من هذه الأنواع سبعين قميصا .
- ثم سلك به في قمص الحرص ، وهو الدرك الرابع ، وهم هوام البر والبحر ، كالأفاعي والعقارب ، فينقمص في كل نوع من هذه الأنواع سبعين فميصا .
- ثم سلك به في الدرك الخامس ، ويسمى النجس ، وهم طير البر والبحر ، إلى أن يستوفي في كل نوع منها سبعين قميصا .
- فإذا استوفى جميع هذه القمص سلك به بما هو الدرك السادس ، ويسمى النكس ، وهو النبات المحظور القاتل المهلك للحيوان ، إلى أن يستوفي في كل نوع من هذه الأنواع سبعين قميصا .
- وسلك به في الدرك السابع الذي يسمى الركس ، وهو المعدن والحجر ، إلى أن يستوفي في كل نوع من أنواعه سبعين قميصا ... ثم أنه يعمد بعد ذلك بأضداد المقامات الإلهية والرسل والأنبياء ، فتنتفي إلى أرباع الأرض الخاجة من حد الاعتدال ، التي هي غير مسكونة " ( ) .
ويظهر من هذا النص الاعقتاد بالتناسخ ، وهو النص الوحيد أمامنا يدل على ذلك ، وقد اعتمد عليه الباحثون المعاصرون ( ) . فاعتمادا على قول جمهور الإسماعيليين كما سبق ذكره ، يدعونا الإنصاف أن نرد التهمة بأنهم يعتقدون بالتناسخ ، طبقا لنصوصهم الواضحة التي تنص على إنكارهم التناسخ . وبالإضافة إلى ذلك أنهم يقرون المعاد الروحاني كما سنتحدث عنه فيما بعد .
ولعل الذي دعا العلماء إلى اتهام الباطنية بإنكار البعث والقيامة (المعاد) هو تأويلهم للجنة والنار . فقالوا إن الجنة هي الحجة ، والدعوة ، والعقل . وأما النار فهو موضع الناطق لتنفيذ الحكم على المخالفين للدعوة . وفي ذلك يقول جعفر بن منصور اليمن (تـ347هـ) عن البعث : " البعث هو إطلاق الدعوة في الجزائر بإقامة دعوة الحق ، والنشور هو ما ينشرونه من العلوم والحكمة ، والنفخة هو اتصال المواد العالية بالمبعوث المطلق " ( ) . والجنة الواردة في قوله : فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ( ) . هو " موضع الحجة ، لأنه إنما يوصل إلى كل إمام من حجته ، والحجج هو أبوابهم " ( ) . وجهنم في قوله : وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ( ) . " موضع الناطق الذي يظهر بالسيف وحكمه عليهم بالقتل وهو جهنم " ( ) . وفي موضع آخر من كتابه (سرائر وأسرار النطقاء) أنه أول قوله : وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ( ) . فقال : " فأما الجنة التي أسكنها الله آدم فهي دعوة إمام العصر " ( ) .
ويرى الداعي القرمطي عبدان أن الحق في تأويل الجنة هو العقل ، وقال : " إن أبواب الجنة ثمانية وهي النفس والحروف العلوية السبعة . وأما أبواب النار فهي الأفلاك السبع "ة ( ) . وهناك تأويل آخر لصاحب كتاب ( مجموعة من الحقائق العالية والدقائق والأسرار السامية ) ، حيث ذكر أن أبواب الجنة الثمانية هي الأئمة السبعة والقائم على ذكره السلام . وأما أبواب النار السبعة فهي أضداد الأئمة السبعة والقائم لا ضدّ له لقهره الأضداد عند قيامه والنفخ في الصور ( ) . ويذكر الداعي حاتم بن إبراهيم الحامـدي (تـ596هـ) ( ) أن الجنـة لمن أطاع الإمام ، والنـار لمن أنكر الإمام ( ) . ويقول الداعي هبـة الله الشـرازي (تـ470هـ) عن تأويل قوله : وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ( ) : " فقد ثبت جنتان وناران لا معنى لهما في الظاهر المتعارف .. إننا ههنا جنة في حد القوة ، والأخرى في حد الفعل ، ونارا في حد القوة وأخرى في حد الفعل ، فالجنة التي هي في حد القوة هي دعوة آل محمد التي نهايتها يوصل إلى الجنة الحقيقية ، والنار التي هي في حد القوة هي البدع والضلالات المؤدية إلى النار في حد الفعل ، فيلقى فيها كل كفار عنيد المعروف من حال الكفر أنه تغطية الشيء ، والمغطي هو الكافر ، والكفار لفظة التكثير ، وذلك لأن أئمة الضـلال كل منهم كفار ، ولأنه يكفر ولي الحـق ، و يكفر تابعيه " ( ) . وفي موضع آخر ، أنه يقول عن تأويل قوله : وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَــاطِ ( ) . " والجنة مشتقة من الجنين والاجتنان والجن في ظاهر اللفظ ، وكل ذلك في حكم الغطاء ، ومحدود في حد الخفاء .. والجنة جنتان : إحداهما بالقوة والأخرى بالفعل . إن دعوة الأئمة من آل محمد جنة بالقوة ، تؤدي إلى الجنة بالفعل ، عرضها كعرض السماء والأرض ، فمن لم يثبت له وجود في دعوة الأئمة من آل محمد لم يثبت له في دار ثواب الله تعالى وجود " ( ) .
وأما عن نعيم الجنة فيؤوله الإسماعيلية الباطنية تأويلا روحيا خالصا لا مجال فيه للذات الجسدية أيا كان نوعها ( ) . ولهذا فإنهم يرون أن الثواب الحقيقي في الآخرة هو العلم لا الحس ، كما يتضح ذلك من قول الداعي أبي يعقوب السجستاني (تـ353هـ) : " لما كان قصارى الثواب إنما هي اللذة ، وكانت اللذة الحسية منقطعة زائلة ، وجب أن تكون التي ينالها المثاب أزلية غير فانية ، باقية غير منقطعة ، وليست لذة بسيطة باقية على حالاتها غير لذة العلم ... فإذاً ، الثواب في دار البقاء هو العلم لا الحس ، ولا الأشياء الحسية " ( ) . وقال في موضع آخر إن : " الثواب سعادة تلحق الأنفس تنال بها الخيرات ، وتعطيها الكرامات ، وأول تلك السعادة سعة جوهر النفس بما اكتسبت من صفوة العلم ولطافته " ( ) .
واعتمادا على هذه الأقوال وتأويلاتهم للجنة بأنها عبارة عن الحجة والدعوة والناطق والعقل وما إلى ذلك ، وأن النار عبارة عن مكان ليعذب فيه المخالف للدعوة الباطنية . وأن الثواب هو العلم لا الحس . كل هذه الأقوال تسوقنا إلى اتهامهم بإنكار البعث والقيامة ، وذلك أن الجنة والنار في اعتقادهم مختلفان عن المفهوم الشرعي اختلافا تاما باعتبارهما مكانا للثواب والعقاب ، فالنار مكان أعدها الله لأعدائه ولمن عصاه وخالف أمره ، وهي دار العقوبة في الآخـرة , ودار الذل ، والهوان ، والعذاب .
والآن نشير إلى نصوص الباطنية التي تدل على أنهم لا ينكرون البعث والقيامة والمعاد ، يقول الداعي إدريس عماد الدين (تـ872هـ) : " إنه لما كان لكل شيء غاية ينتهي إليها ، ونهاية يقف لديها ، وكان الإنسان غاية المواليد ، وشرع عليها بالنطق الذي لم يكن فيما قبله من الموجود ، وكان غاية مراتب الإنسانية ، ونهايتها ، وخلاصتها ، وصفوتها هم أولياء الله الآحاد ، والأفراد الذين قامت بهم أسباب المعاد " ( ) . بل نسب الإسماعيلية الباطنية الإنكار بالبعث إلى الفلاسفة . وفي ذلك يقول الداعي أبو يعقوب السجستاني (تـ353هـ) : " إنهم لا يرون القيامة ألبتة ، بل ينكرونها ، ولا يقرون بها ، ونحن نطعن عليهم فيما لا محيص لهم عنه " ( ) . فانتقدوهم بأنه كيف يمكنهم الإنكار لذلك ، وهم يشاهدون النشأة الأولى – أى خلق الإنسان – التي هي اتحاد الروح بالجسد في عالم الحس بعدما كان ابتداؤه في الماء الدافق في رحم المرأة ( ) .
غير أنهم يثبتوت معاد الروح دون الجسد ، ذلك لأن ذوق العذاب إنما هو للأرواح ، يقول الداعي أبو يعقوب السجستاني (تـ353هـ) في إثبات البعث موضحّا حقيقة رأي المذهب الباطني ، وذلك عند تأويله لقول الله : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ) . " فأخبر جل ذكره أن ذوق العذاب إنما هو للأرواح " ( ) . ثم يناقش القائلين بثبوت المعادين أى الروح والجسد معا ، موضّحا استحالة كون الله تعالى يجمع العظام البالية المتبددة المتمزقة التي انتشرت في الأقطار ، واضمحلت عن الآثار ، إذ يقول : " إذ لو بعث الله تعالى ذكره الميت كما أماته ، وكما كان أيام حياته بأعضائه و أحواله وأركانه وهيأته . أليس بواجب أن يلحقه ما كان يلحقه حينئذ ؟ وإذا لحقه ذلك لحقه ما يتبعه من الأكل والشرب والنوم واللباس ... فقد صح أن الله يحيي الموتى ، ويبعثهم لا من عظامهم " ( ) .
فهذه النصوص تؤكد على جواز البعث الروحاني دون الجسماني . لأنه – في رأيهم – يستحيل جمع العظام المتفرقة والمتمزقة في الأرض .
وفي موضع آخر يثبت الداعي حميد الدين الكرماني (تـ411هـ) الجزاء في الآخرة ، فيرى أن الجزاء متعلق بالبعث . إلا أن الجزاء للروح دون الجسد ؛ ذلك لأن النشأة الآخرة هي خلق الأرواح ( ). وأشار كذلك الوزير يعقوب بن كلّس (تـ380هـ) إلى أن الله خلق الدارين – الدنيا والآخرة – وجعل الدنيا ظاهرة والآخرة باطنة ، فدل بما ظهر على ما بطن . والدنيا للجسمانين ، لأنه خلقها ، وبثّ فيها من كل شيء . أما الآخرة فهي للعالم الروحاني باقين مؤيدين ( ) . ومن هنا ، فإنهم ينكرون الصراط والميزان ، لتعلق هذه الأشياء بالجسد ( ) .
هكذا أثبت الإسماعيلية الباطنية البعث والمعاد ، وأنه للروح دون الجسد ، ذلك لاستحالة إعادة الجسم بعد تمزقه وتفرقه . ورغم ذلك أن الداعي علي بن الوليد (تـ612هـ) يخالف اتفاق الإسماعيلية بأن المعاد للروح فقط ( ) ، حيث يرى أن الصحيح هو القول بإثبات المعادين أى الروح والجسد معا ، بل يكفر القائلين بالمعاد الروحي فقط ، وهذا نص قوله : " وكل من أنكر ثواب الأجساد وعقابها وأبطله، فهو كافر " ( ) . وعلى هذا ، فقد انفرد الداعي بهذا الرأي ، لأن غيرهم من الدعاة وعلماء الإسماعيلية الباطنية ينفون بعث الأجسـاد . فمن راجع معظم الكتب الباطنية من أمثال : راحة العقل ( ) ، وكتاب الافتخار ( ) ، وكتاب كنـز الولد ( ) ، وكتاب شجرة اليقين ( ) وغيرها من المؤلفات الباطنية ، يتضح له أنهم يثبتون معاد الروح فقط . ومن هنا ينفي الداعي علي بن الوليد (تـ612هـ) عن الإسماعيلية الباطنية ما ذكره الإمام الغزالي في ( فضائح الباطنية ) بأنهم اتفقوا عن آخرهم على إنكار القيامة ( ) . إذ يقول : " إن منكر القيامة والمعاد عندنا حلال الدم ، إن لم يبادر إلى المثاب ، وكذب لله تعالى الخلق ولرسوله صلوات الله عليه وعلى آلـه ، وللشريعة والكتاب " ( ) . وبالإضافة إلى ذلك ، يقول الداعي حميد الدين الكرماني (تـ411هـ) عن الجنة بأنها : " موصوفة بالسرمد ، والأبد ، ووجـود الملاذ فيها أجمع ، وأنها لا تستحيل ولا تتغير ، ولا يطرأ عليها حال ، ولا تتبـدل " ( ) . وقد نقل هذا النص الداعي إبراهيم بن الحسين الحامـدي (تـ557هـ) في كتابه (كنـز الولد) ( ) .
وخلاصة القول : إن الباطنية يؤولون الأمور السمعية إلى رموز وإشارات لا أساس لها من الصحة، ولا تمت إلى الإسلام بشيء ، ولهذا يمهـد لنا الطريق إلى اتهامهم بإنكار البعث والمعاد والقيامة . غير أننا وجدنا أكثر من نص يشير إلى عدم إنكارهم البعث والمعاد ، حيث إنهم يثبتون معاد الروح دون الجسم . ونظرا لاعتمادنا على هذه النصوص الثابتة لديهم ، فقررنا بأنهم لا ينكرون البعث والمعاد .
ولكن على الرغم من عدم إنكارهم البعث والمعاد ، إلا أنهم صنعوا ما يؤدي إلى أغرب الآراء هو اعتقادهم في القيامة بأن الأئمة المنصوص عليهم من آل البيت هم الشفعاء للمؤمنين عند الله تعالى يوم القيامة الكبرى . يقول الداعي جعفر بن منصور (تـ347هـ) في قوله : يَوْمَئِذٍ لَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ( ) . " لا ينال الشفاعة من القائم صلوات الله عليه يوم قيامه بالسيف إلا لمن أذن له الرحمن . لأن إذن الله بأيدي الأئمة والرسل . فمن اتبع إمام عصره وهو يدله ، ويشير به إلى القائم بحد السيف من إذن الله ، قال : الشفاعة منه " ( ) . وهذا بعينه معتقد الإمامية الإثنى عشرية ، حيث اتفقوا على أن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته ، وأن أئمـة آل محمد يشفعون كذلك وينجي الله بشفاعتهم كثيرا من الخاطئين ( ) . وأشدّ من ذلك ، يقول الداعي علي بن الوليد (تـ612هـ) : " إن قائم الدور الأكبر ، والقيامة الكبرى ، وهو الذي يكون بيده الثواب والعقاب ، بجميع من تقدمه من النطقاء والأوصياء والأئمة وحدودهم عليهم السلام ، إليه المنقلب والمآب " ( ) .
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
0 komentar:
Post a Comment