Tuesday, July 24, 2012

مفهوم التوحيد عند الفرق الكلامية

مفهوم التوحيد عند الفرق الكلامية
الدكتور/ كمال الدين نور الدين مرجوني
رئيس قسم الدعوة والإدارة الإسلامية بجامعة العلوم الإسلامية الماليزية
 مقدمة:
إن مشكلة الألوهية من أعقد القضايا الميتافيزيقية وأقدمها، عالجها الإنسان أولا على الفطرة، ثم أخذ يتعمق فيها ويفلسفها([1]). وهي من أهم جوانب البحوث الفلسفية القديمة والحديثة معا، كما أنها احتلت في الوقت نفسه جزءا هاما من تراث الأديان السماوية (اليهودية، المسيحية، الإسلام)، وقد مالت اليهودية إلى التجسيم ، فشبهوا الخالق بالمخلوق، ومالت المسيحية إلى التجريد، حتى صار إلهها غير معقول، فاخترعت له فكرة (الثالوث) حتى يقدر البشر على تصوره([2]).
بينما اتخذ الإسلام أعدل الطرق وأوضحها وأكثرها فاعلية، فوقف وسطا بين هؤلاء وأولئك، فنزه الله عن تجسيد اليهودية وعن تجريد المسيحية، وأخبر عن ذلك بأنه سبحانه: ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[ -الشورى، الآية:11-. فالإله ليس ذاتا مبهمة مجهلة على نحو ما تصوّره المذاهب الفلسفية التجريدية، وليس هو فكرة خيالية أو معنى ذهنيا كما ترى الفلسفة الهندية. وليس هو صورة عقلية مجردة من صفة الإرادة والخلق والتأثير والعناية بالكون كما يقرر مذهب أرسطو. وليس هو هذا الأول الذي يمثل نقطة رياضية موهومة مجردة عن كل محتوى كما يحلو لأفلوطين أن يقول عن أوله.
كذلك فإن الإله في التصور الإسلامي ليس ذاتا محدودة مجسّدة، وليس ذاتا قابلة للحلول في الكائنات المادية المحسوسة على نحو ما تُقرّر مذاهب التجسيد المسرفة، إنما الإله في الإسلام هو الحقيقة الأحدية الصمدية التي ليس كمثلها شيء، هو ذات لا كالذوات التي يراها الحس أو يتخيلها الوهم، لأنها لو وقعت في دائرة الخيال –مهما امتد واتسع– فهي بهذا المعنى محدودة مقيدة([3]). وكذلك فإن الإله في التصور الإسلامي ليس كما صوره الإسماعيلية الباطنية الذين فلسفوا فكرة الألوهية فكرة دقيقة وعميقة، حيث تقوم فلسفتهم الإلهية على أساس أن العقل الإنساني لا يستطيع أن يدرك حقيقة الذات الإلهية، وليس لهذه الذات صفات، وإنما تنصب الصفات على العقل الأول الذي أبدعه الله، فهم بهذا أشد تعطيلا من المعتزلة، وإن حاولوا أن يدفعوا هذه الشبهة عن أنفسهم([4]).
وعلى أيه حال، فإن معرفة الله والإقرار بوجوده أمر ضروري فطري في الإنسان، إذ كل واحد من بني آدم يقر بوجود الخالق ويعترف به، وذكر ابن القيم: "أن وجود الرب –تعالى- أظهر للعقول والفطرة من وجود النار، ومن لم تر ذلك في عقله وفطرته فليتهمهما"([5]). وهذا ما قرره جمهور أهل السنة العلماء من المسلمين([6]). والعقلاء من علماء أوربا([7]). وأما ما يظهر على بعض الملحدين من الكفر بالله فهو أمر طارئ على الفطرة، وانحراف عن الطبيعة البشرية والإنسانية. فكان هناك من ينكر الألوهية من بين قريش وغيرهم وهؤلاء قالوا بالطبع الحي والدهر المفني ، وأخبر عنهم القرآن الكريم قي قوله : )وَقَالُوْا مَاهِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوْتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَالَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّوْنَ( -الجاثية: 24-، وهؤلاء هم الذين يسميهم الشهرستاني معطلة العرب، إذ لم تهدهم عقولهم إلى الإقرار بالخالق والدار الآخرة ، فكأنهم عطلوها ولم ينتفعوا بها([8]).
وفي هذا الفصل سنتحدث عن مفهوم التوحيد عند المذاهب العقائدية، وفيه الحديث عن قضية الأسماء والصفات لأن هذه المسألة تتصل بالألوهية، وهي مسألة حقيقة الصلة بين الذات الإلهية وصفاتها، ونظرة عامة يمكن القول بأنهم انقسموا إلى ثلاثة آراء: الأول: المثبتون للصفات مطلقا، والثاني: المثبتون للصفات نسبيا، والثالث: النافون للصفات.


الاتجاه الأول:
وهم المثبتون للصفات مطلقا، فإنهم ينقسمون إلى قسمين: مشبهة وغير مشبهة، فالمشبهة هم الذين أثبتوا الصفات لله تعالى وبالغوا في الإثبات حتى أن بعضهم قد شبه الخالق بالمخلوق، وخلع عليه كل صفات الإنسان المادية والمعنوية، فكانوا مجسمة، ويمثل هؤلاء بعض غلاة الشيعة  أتباع هشام بن الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي وغيرهم من الروافض، ثم الكرامية والخابطية، وكذا الحشوية وبعض رجال الحديث، وأشهر هؤلاء المجسمة هم فرقة الكرامية الذين بلغ بهم التطرف إلى حد اعقادهم بأن الله جسم وله صفات الأجسام البشرية. ومن المشبهة غلوا حتى أنهم شبهوا المخلوق بالخالق فيخلعون على أئمتهم صفات إلهية من خلال اعتقادهم بالحلول وأن روح الله تعالى تحل في بعض الأئمة بما وصلوا إليه من كمال وقرب واتصال بالله تعالى ، ويتمثل هؤلاء في حلولية الشيعة من فرق البيانية والمغيرية والجناحية والسبئية وغيرهم ، وقد اعتقد بهذا أيضا الشيعة الإسماعيلية الباطنية([9]). ومن هنا يرى الدكتور أبو الوفاء التفتازاني أنه ربما كان الروافض من غلاة الشيعة أسبق هذه الفرق الإسلامية جميعا إلى القول بالتشبيه([10]). وأما القسم الثاني أي غير مشبهة من الاتجاه الأول، فإنهم وإن أثبتوا صفات الله تعالى إلا أنهم لم يتطرفوا ولم يقعوا في التشبيه والتجسيم كما حدث في القسم الأول، فأثبتوا لله ما يليق بذاته من صفات تليق بجلال الله وكماله ، فهو تعالى حي قادر خالق عليهم مريد عدل حكيم سميع بصير وغيرها من الصفات، واعتبروا أن هذه الصفات الذاتية والمعنوية، هي مما يليق نفيها عن الباري تعالى لما في ذلك من مخالفة صريحة للنصوص الدينية، فضلا عما يوجبه ذلك من نقص في حق الباري تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وقد عرف هؤلاء جميعا بالصفاتية، غير أن بعض رجالها قد آمنوا بكل الصفات المعنوية والخبرية التي ورد بها القرآن الكريم. وأجروها على ظاهرها إيمانا وتسليما دون تأويل ودونما قدح في تنزيه الله تعالى عن كل صفات المخلوقين ، ومن ثم فقد أثبتوا لله صفات العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر وغيرها دون أن يفرقوا بين صفات الذات وصفات الفعل، وهؤلاء هم السلف وأئمة الفقه ورجال الحديث أمثال الإمام مالك ، وسفيان الثوري والإمام أحمد بن حنبل([11]). وبذلك أنهم أثبتوا الصفات الإلهية دون أن يؤدي هذا الإثبات إلى شبهة التجسيم([12]). والبعض الآخر من الصفاتية أثبتوا الصفات الذاتية المعنوية، ثم تأولوا الصفات الأخرى التي يحمل ظاهرها معان حسية مما يوهم بالتشبيه، تنزيها لله تعالى وتحرزا عن التفريط في صفات وأسماء نسبها الله تعالى إلى نفسه، ويمثل هؤلاء بصفة خاصة الأشاعرة والماتريدية.
الاتجاه الثاني:
هم النافون للصفات، فإنهم كذلك ينقسمون إلى قسمين: قسم نفوا كل الصفات عن الله عز وجل، ولا يثبتون صفة مطلقا لا إيجابية ولا سلبية ولا اسما من أسمائه تعالى، فوقعوا في التعطيل المحض، ويمثل هؤلاء غلاة الشيعة من الإسماعيلية الباطنية([13]). والقسم الثاني من هذا الاتجاه، فإنهم ينفون الصفات أيضا ، ولكن بصورة تخالف ما نفاها به القسم الأول أي الباطنية، ذلك أنهم لم ينفوا الصفات بإطلاق كهؤلاء، ولم يثبتوها قديمة قائمة بالذات كما عليه الأشاعرة، وإنما اعتبروا الصفات عين الذات أو هي هي الذات، وعلى الرغم من ذلك فإن خصومهم اعتبروهم من المعطلين للصفات، وحقا فإنهم في الحقيقة معطل نسبي وليس معطلا مطلقا كالباطنية. ويمثل هؤلاء المعتزلة والفلاسفة([14]).
وقبل الحديث عن آراء علماء الكلام في قضية التوحيد، فيحسن لنا التعريف بالتوحيد لغة واصطلاحا عند علماء الكلام وعلماء السلف:
التوحيد في اللغة:
جاء في المعاجم أن التوحيد مصدر: وحّد الشيىء يوحده توحيداً، وكلمة وحد تدل على التفرد، وعدم النظير والمثيل للشيىء فيما اختص به، وتقول العرب: واحد وأحد، ووحيد، أي منفرد، فالله تعالى واحد، أي منفرد عن الأنداد والأشكال في جميع الأحوال، فالتوحيد هو العلم بالله واحدا لا نظير له، فمن لم يعرف الله كذلك، أو لم يصفه بأنه واحد لا شريك له، فإنه غير موحد له ([15]).


التوحيد في الاصطلاح:
التوحيد عند علماء الكلام عبارة عن إثبات وحدانية الله سبحانه وتعالى وإلهيته ونفيها عن غيره من المخلوقين([16]). يقول الرازي إن التوحيد: "عبارة عن الحكم بأن الشيء واحد، وعن العلم بأن الشيء واحد، يقال: وحدته إذا وصفته بالوحدانية"([17]). وعرفه القاضي عبد الجبار: "أما في اصطلاح المتكلمين فهو العلم بأن الله -تعالى- واحد لا يشاركه غيره فيما يستحق من الصفات نفياً وإثباتاً على الحد الذي يستحقه، والإقرار به([18]).
ويفهم من هذه التعريفات الكلامية أن التوحيد عند علماء الكلام يدور على العلم والإقرار، وليس عندهم تقسيمات للتوحيد -كما عند علماء السلف- مثل التوحيد العملي وهو توحيد الألوهية، فالمتكلمون وإن ذكروا الألوهية أو الإله في تعريفاتهم، فإنما يريدون به القادر على الاختراع.
وأما علماء السلف فجاء تعريفهم([19]) بأنه: "إفراد الله تعالى بما يختص به من الألوهية والربوبية والأسماء والصفات". واضح من هذا أن التوحيد ثلاثة أنواع: الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات"، وذهبوا إلى أن استخدام هذا المصطلح -أي التقسيم الثلاثي للتوحيد- أو أحد مشتقاته للدلالة على هذا المعنى ثابت مستعمل في الكتاب والسنة. فمن ذلك: قوله تعالى: ]قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اَللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُوْلَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ[ -الإخلاص: 1-5-. وقوله تعالى: ]وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ[ -البقرة: 163-.وقوله: ]لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ -المائدة: 73-، والآيات في هذا المعنى كثيرة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ e مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى نَحْوِ أَهْلِ الْيَمَنِ قَالَ لَهُ : "إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ فَإِذَا صَلَّوْا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ"([20]). وعن ابن عمر رضي الله عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ: (بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسَةٍ: عَلَى أَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ)([21]).
وعلى أية حال، فإن علماء السلف اخنلفوا في تقسيم التوحيد، فتارة قسموا إلى اثنين وتارة أخرى إلى ثلاثة أقسام كما فعل ذلك ابن أبي العز الحنفي، فيقول التوحيد عند السلف نوعان: الأول: توحيد الربوبية ... الثاني: توحيد الألوهية([22]). ويقول في موضع آخر: "التوحيد يتضمن ثلاثة أنواع: أحدها الكلام في الصفات، والثاني توحيد الربوبية ... والثالث توحيد الألهية([23]).
ومن هنا انتقد علماء السلف تعريف المتكلمين للتوحيد، حيث قال ابن تيمية: "إن ما فسر به هؤلاء اسم الواحد من هذه التفاسير التي لا أصل لها في الكتاب، والسنة، وكلام السلف والأئمة، باطل بلا ريب شرعاً وعقلاً ولغة. أما في اللغة فإن أهل اللغة مطبقون على أن معنى الواحد في اللغة ليس هو الذي لا يتميز جانب منه عن جانب، ولا يرى منه شيء دون شيء، إذ القرآن ونحوه من الكلام العربي متطابق على ما هو معلوم بالاضطرار في لغة العرب وسائر اللغات، أنهم يصفون كثيراً من المخلوقات بأنه واحد ويكون ذلك جسماً..وإذا كان أهل اللغة متفقين على تسمية الجسم الواحد واحداً، امتنع أن يكون في اللغة معنى الواحد: الذي لا ينقسم إذا أريد بذلك أنه ليس بجسم وأنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء..بل لا يوجد في اللغة اسم واحد إلا على ذي صفة ومقدار([24]). وقال أيضاً: "وليس المراد بالإله هو القادر على الاختراع، كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين، حيث ظن أن الإلهية هي القدرة وأن من أقر بأن الله هو القادر على الاختراع دون غيره، فقد شهد أن لا إله إلا هو([25]).
ويبدو أن الخلاف حول تقسيم التوحيد إنما هو خلاف صوري، ذلك لأن التقسيم الثالث الذي لم يرد في القسمة الثنائية، وهو توحيد الأسماء والصفات، هو متضمن في توحيد الربوبية([26]). وذلك أن المقصود بالتوحيد في هذه النصوص كلها وما جاء في تعريف التوحيد عند علماء الكلام وعلماء السلف هو تحقيق معنى شهادة (أن لا إله إلا اله وأن محمدا رسول الله). إذن، فيُعدُّ المعنى اللغوي والديني للتوحيد في منتهى الوضوح لنهوضه على قضية أساسية واحدة، هي "أن الله واحد".
وأما بالنسبة لأنواع التوحيد كما جاء تقسيمه عند علماء السلف، فالواقع أن هذا التقسيم الثنائي أو الثلاثي لم ينص عليه أحد في القرون الثلاثة الأولى، ولعل أول من ذكر هذا التقسيم بالتفصيل والتعريف هو الإمام ابن تيمية، ولكن هذا التقسيم في الحقيقة لا بأس به، لأنه يدخل في باب التعليم والتقريب حتى يعلم الناس أنه لا يكفي في التوحيد العلم دون العمل ولا العمل دون العلم.
وقد بين ابن تيمية معنى توحيد الربوبية بأنه: "الإقرار بأن الله خالق كل شيء وربه"([27]). ومثل هذا يقول شارح الطحاوية: "الإقرار بأنه خالق كل شيء، وأنه ليس للعالم صانعان متكافئان في الصفات والأفعال، وهذا التوحيد حق لا ريب فيه، وهو الغاية عند كثير من أهل النظر والكلام وطائفة من الصوفية"([28]). وهذا النوع من التوحيد هو كالأساس بالنسبة لأنواع التوحيد الأخرى.
ونقطة مهمة في الحديث عن هذا التوحيد الأساسي عند السلف، حيث ذهب بعضهم إلى أن معرفة الله عز وجل ووجوده أمر فطري أو بدهي، حيث إن وجود الله تعالى من القضايا المسلمة، لقوله تعالى: )فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ( -الروم: 30-. ومعنى الفطرة هنا: هو الإسلام والتوحيد([29])، فالله سبحانه وتعالى يقرر في كتابه العزيز بأن توحيده عز وجل فطرة في الإنسان فطر الله عليها. وقد زاد النبي e هذا المعنى تأكيد في قوله: (ما مو مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه). إذن، فمعرفة الله والإقرار بوجوده أمر ضروري فطري في الإنسان. ومن الآيات الدالة على فطرية معرفة الله تعالى، قوله: )وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ( -العنكبوت: 61-. وقوله تعالى: )وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ( -العنكبوت: 63-. وقوله تعالى: )وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ( -لقمان: 25-. وقوله تعالى: )وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ( -الزمر: 38-. وقوله تعالى: )وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ( -الزخرف: 9-. وقوله تعالى: )وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ( -الزخرف: 87- ووجه دلالة هذه الآيات أن الإنسان ليس في حاجة إلى البرهنة على وجود الله.
والجدير بالذكر أن ابن تيمية له وُجْهة نظرٍ آخر، إذ قال: "إن الإقرار بالخالق وكما له يكون فطريا ضروريا في حق من سلمت فطرته ... ولكن قد يحتاج إلى الأدلة عليه كثير من الناس عند تغير الفطرة، وأحوال تعرض لها"([30]). ويفهم من هذا النص أن ابن تيمية يرى أن معرفة الله تعالى ليس مصدرها الفطرة وحدها، بل إلى جانبها المصدر الآخر لمن لم تسلم فطرته أي فطرته شاذة. وخير مثال في هذا الصدد "فرعون" الذي فال لموسى عليه السلام منكرا وجاحدا: )وَمَا رَبُّ الْعَالَمِيْنَ( -الشعراء: 23-. وقال الله عن فرعون وقومه الذين جحدوا ولم يقروا بالخالق المالك عز وجل: )وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ( -النمل: 14- وقد كان فرعون أشهر من عرف تجاهله وتظاهره بانكار الصانع، ومع ذلك قد كان مستيقنا به للباطن، كما قال له موسى: )قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً( -الإسراء: 102-
وأما معنى توحيد الألوهية فيقول ابن أبي العز الحنفي أنه: "استحقاقه -سبحانه وتعالى- أن يعبد وحده لا شريك له"([31]). وهو ما يعبر عنه بتوحيد العبادة، معناه إفراد الله سبحانه وحده بالعبادة، وذلك إفراد الله تعالى بأفعال عباده التي تعبدهم بها بجميع أنواعها، باطنها وظاهرها، من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج وغير ذلك من أنواع العبادة التي تعبد الله بها خلقه، وشرعها لهم. وهذا النوع من التوحيد مبني على إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له. وقد عنى القرآن الكريم بذكر وتقرير توحيد الإلهية كقوله تعالى: )قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ( -الإخلاص: 1-. وقوله تعالى: )وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ( -الإسراء: 23-. وقوله تعالى: )وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ( -التوبة: 31-. وقوله تعالى: )وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ( -البينة: 5-. وبهذا النوع من التوحيد يتحقق معنى الشهادة،  وهو متضمن لتوحيد الربوبية.
والقسم الأخير من أنواع التوحيد أي توحيد الأسماء والصفات فيعني به إفراد الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى التي وردت في الكتاب والسنة، وذلك بإثبات ما أثبته تعالى لنلسه أو أثبته له رسول الله e من الأسماء والصفات من غير تحريف لألفاظها أو معانيها، ولا تعطيلها بنفيها أو نفي بعضها عن الله عز وجل، ولا تكييفها بتحديد كنهها، أو إثبات كيفية معينة لها، ولا تمثيلها، ولا تشبيهها، بل تمرها كما وردت مع اعتقاد مدلولها ومعانيها، على ما يليق بجلال الله. ويتركز هذا التوحيد على ثلاثة أسس، وهي: التنزيه أي تنزيه الله تعالى عن مشابهة الخلق، والإيمان بالأسماء والصفات الثابتة في الكتاب والسنة، وعدم التعرض لنفيها، وقطع الطمع عن إدراك كيفية هذه الصفات، لأن إدراك حقيقة الكيفية مستحيل، يقول الله تعالى: ]وَلاَ يُحِيْطُوْنَ بِهِ عِلْمًا[ -طه: 110-([32]).
وللسلف طريقان في توحيد الأسماء والصفات، وهما الإثبات والتنزيه، وفيما يلي بيان هذين الطريقين:
الأول: الإثبات.
الإثبات عند السلف هو إثبات بلا تشبيه، وبيان ذلك في الآتي:
أ- الإيمان والتسليم بما ورد من الأسماء والصفات.
بمعني أنه يجب التصديق بالأسماء والصفات الثابتة في الكتاب والسنة دون تجاوزها بالنقص أو الزيادة. وأشار إليه بن خزيمة قائلا: "إن الأخبار في صفات الله موافقة لكتاب الله تعالى، نقلها الخلف عن السلف قرنا بعد قرن من لدن الصحابة والتابعين إلى عصرنا هذا على سبيل الصفات لله تعالى، والمعرفة والإيمان به والتسليم لما أخبر الله تعالى في تنزيله ونبيه e مع اجتناب التأويل والجحود، وترك التمثيل والتكييف"([33]).
ويضيف ابن تيمية توضيحا، فيقول: "أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله نفيا وإثباتا، فيثبت لله ما أثبته لنفسه، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه، وقد علم أن طريق سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولاتمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه ... فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات، إثباتا بلا تشبيه، وتنزيها بلا تعطيل كا قال تعالى:)لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ الْبَصِيْرُ( -الشورى: 11-
وفي موضع آخر يقول ابن القيم موضحا هذا الإثبات: "فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبهوها بصفات خلقه، ولم يعدلو بها عما أنزلت عليه لفظا ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات"([34]).
ب- : الأسماء والصفات كلها توقيفية.
هذا الطريق يعني أن علماء السلف لا يطلقون شيئا على الله منها إلا بما جاء به الشرع سواء كان من القرآن الكريم أو من السنة النبوية، وما لم يرد به، فلا يصح إطلاقه. قال الإمام الشافعي-نقلا عن ابن قدامة-: "آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله e وعلى هذا درج السلف([35]). وقال عبد الرحمن بن قاسم العتقي: "لا ينبغي لأحد أن يصف الله إلا بما وصف به نفسه في القرآن"([36]).
ومن هنا قرر علماء السلف أن أسماء الله وصفاته كلها توقيفة، أي لا يتجاوز فيها التوقيف. وذلك لأن الإيمان بصفات الله وأسمائه من الإيمان بالغيب، ولا يمكن معرفة الغيب إلا عن طريق القرآن والسنة.
ت- الكيفية مجهولة.
ومراد السلف هنا إثباتهم للصفات إثبات وجود معلوم المعنى مجهول الكيفية. وهو نفي للتأويل. قال مالك بن أنس: "الله في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو منه مكان، قال: وقيل )اَلرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى( -طه: 5-، كيف استوى؟ فقال مالك رحمه الله: استواؤه معقول، وكيفيته مجهولة، وسؤالك عن هذا بدعة، وأراك رجل سوء"([37]). وفي هذا أوضح أبو سليمان الخطابي أنه إذا كان معلوما أن إثبات البارئ سبحانه وتعالى، هو إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته، إنما هو إثبات وجود، لا إثبات تحديد وتكييف([38]).
ث- الإثبات مفصلا.
قال ابن أبي العز: "يأتي الإثبات للصفات في كتاب الله مفصلا، والنفى مجملا، عكس طريقة أهل الكلام المذموم، فإنهم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المجمل"([39]). والدليل على ذلك قوله تعالى: )هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ( -الحشر: 23، 24- وقوله تعالى: )يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ( -الجمعة:1-
ج- أسماء الله كلها حسنى.
قال ابن القيم: "أسماؤه سبحانه وتعالى كلها أسماء مدح وثناء وتمجيد، ولذلك كانت حسنى، وصفاته كلها صفات كمال، ونعوته كلها نعوت جلال، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل"([40]).
وقال ابن القيم في موضع آخر: "أسماء الرب تعالى دالة على صفات كماله، فهي مشتقة من الصفات، فهي أسماء، وهي أوصاف، وبذلك كانت حسنى، إذ لو كانت ألفاظا لا معاني فيها لم تكن حسنى، ولا كانت دالة على مدح وكمال"([41]).
ومن حسنها، دلالتها على صفات الكمال، أنه ليس فيها اسم من الأسماء يحتوي على الشر. قال ابن تيمية: "ليس من أسماء الله الحسن اسم يتضمن الشر، إنما يذكر الشر مفعولاته، كقوله: )نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ(  -الحجر: 49،50-. وقوله: )اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ( -المائدة: 98-. وقوله: )إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ، إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ، وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ( -البروج: 12، 13، 14-. فبين سبحانه أن بطشه شديد، وأنه هو الغفور الودود"([42]).
ومن تمام كونها حسنى، الدعاء بها، ولذلك قال تعالى: )فادعوه بها( -الأعراف: 180- وهذا شامل لدعاء العبادة، ودعاء المسألة، فيدعى في كل مطلوب، بما يناسب ذلك المطلوب([43]).
والثاني: التنزيه.
والمراد بالتنزيه هو تبعيد الرب عن أوصاف البشر([44]). قال نعيم بن حماد: "من شبه الله بشيء من خلقه، فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه، فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه([45]). وقال إسحاق بن راهويه: "من وصف الله، فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله، فهو كافر بالله العظيم"([46]).
وفي موضع آخر أوضح ابن أبي العز معنى التنزيه قائلا: "فإن من نفى صفة من صفاته التي وصف الله بها نفسه، كالرضا، والغضب، والبغض، ونحو ذلك، وزعم أن ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم، قيل له: فأنت تثبت له الإرادة، والكلام، والسمع، والبصر، مع أن ما تثبته له ليس مثل صفات المخلوقين، فقل فيما نفيته وأثبته الله ورسوله مثل قولك فيما أثبته، إذ لا فرق بينهما، فإن قال: أن لا أثبت شيئا من الصفات، قيل له: فأنت تثبت له الأسماء الحسنى، مثل: حي، عليم، قدير، والعبد يسمى بهذه الأسماء، وليس ما يثبت للرب من هذه الأسماء مماثلا لما يثبت للعبد، فقل في صفاته نظير قولك في مسمى أسمائه"([47]).
ومن هنا يحدد محمد الأمين الشنقيطي ثلاثة أوجه في توحيد الأسماء والصفات، من تجاوزها أو تجاوز واحدا منها لم يكن موحدا ربه في أسمائه وصفاته، وهي: 1) تنزيه الله تعالى عن مشابهة الخلق، وعن أي نقص. 2) الإيمان بجميع أسماء الله الحسنى وصفاته الثابتة في القرآن والسنة، دون زيادة أو نقص، أو تحريف لها، أو تعطيل. 3) صرف النظر عن أي محاولة لادراك كنه أو كيفية هذه الصفات([48]).
وخلاصة القول أن التوحيد عند السف ثلاثة أنواع: الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات. والتنزيه عندهم مبني على القول بأن الله تعالى منزه عن النقائص والعيوب، والإثبات مفصلا والنفي مجملا، ولا يوصف الله تعالى بالنفي المحض.
مفهوم التوحيد عند الإباضية
    تعتبر عقيدة التوحيد عند الإباضية من القضايا التي لم يتأثَّرْ فيها المذهب بمؤثرات غير إسلامية كما هو الشأن عند فرق كثيرة تنسب للإسلام، ولكنها ليست منه([49]). ففي المذهب الإباضي أن الإقرار بالشهادتين واعتقاد أن ما جاء به رسول الله e من عند ربه من الأحكام والشرائع هو الحق، فقد أصبح من الموحدين، ومن ثم تنتفي عنه عندهم أحكام المشركين، ويحرم سفك دمه، وغنيمة أمواله ، وسبي ذريته([50]).
وقد بسط لنا الإمام محمد بن يوسف أطفيش -الفقيه الإباضي- عقيدة التوحيد عند الإباضية، فقال: "إن من شهد ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، واعتقد أن ما جاء به محمد e من عند ربه هو الحق، والإيمان بجملة الملائكة والرسل، وجملة الكتب التي أنزلها على رسله، والإيمان بأن الموت حق وأن النار حق، والإيمان بالقضاء والقدر، من أقر بأن هذه الأمور التي كان يدعو إليها رسول الله e هي عقيدته، فقد تم إيمانه فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين الناس" ([51]) .
    وسمى الإباضيون هذه العقيدة بـ (جملة التوحيد)، وسر التسمية بهذا الاصطلاح كما يقول الشيخ أحمد الخليلي في تعليقه لكتاب (مشارق أنوار العقول): "... وإنما عبَّر الإباضية عن هذه الأمور، والتي هي صرح الإيمان بجملة التوحيد نظرا إلى تعبيرها عن كليات الإيمان التي تندرج تحتها مدلولات جزئياته، فإن كل اعتقاد صحيح عن الله وصفاته وأفعاله دنيا وأخرى تفسير لها كما أن كل ما تستلزمه عقيدة التوحيد من الأعمال الصالحة وفاء بحقها"([52]) .
    ومعرفة التوحيد عند المذهب الإباضي من الأمور التي لا يجوز أن يجهلها الإنسان متى بلغ مرحلة التكليف، يقول أبو زكريا يحيى الجناوني الإباضي: "علم ما لا يسع الناس جهله طرف عين، وعلم ما يسع جهله إلى الورود وقيام الحجة، وعلم ما يسع جهله أبدا، فأما علم ما لا يسع جهله طرفة عين فهو معرفة التوحيد، والشرك لا يسع جهله، لأن من جهل الشرك لم يعلم التوحيد، فوجب معرفة الشرك، والتوحيد مع أول البلوغ([53]).

مفهوم التوحيد عند المعتزلة
    هذا هو الأصل الأول من أصول المعتزلة الخمسة، والوجود الإلهي عندهم هو الطريق المثبت فهو: حدوث الأجسام، أو بتسمية المعتزلة: "المحدثات الدالة على الله تعالى"([54])، وحدوث الأجسام كما يرى المعتزلة أقوى طريق يدل على إثبات وجود الله تعالى، لأنه استدلال بالفعل على الفاعل. ويفضل المعتزلة الاستدلال بالأجسام على الاستدلال بالأعراض، لأن الاستدلال الثاني يتعرض لمناقشة الخصم واعتراضاته، ويحتاج إلى كلام طويل حتى يتم الاستدلال به، ومن أجل ذلك كان الاستدلال بحدوث الأجسام أقوى دلائل المعتزلة وأظهرها.
فمن خلال استدلالهم العقلي على وجود الله سبحانه التزموا بنفي الصفات، وأداهم ذلك إلى إثبات خلق القرآن، وإلى عدم رؤية المؤمنين لله سبحانه يوم القيامة، وإلى نفي استواء الله على عرشه من فوق سماواته كما أخبر في كتابه الكريم، فناقضوا بذلك محض العقيدة الإسلامية التي ثبتت بنصوص الكتاب والسنة، ونقلها صحابة رسول الله ومن بعدهم التابعون وتابعوهم من سلف هذه الأمة، أهل القرون الثلاثة الفضلى.
وهذا الأصل عندهم يدور حول ما يثبت لله وما ينفى عنه من الصفات، ويدل على ذلك تعريفهم له. يقول المتكلم المعتزلي القاضي عبد الجبار -وهو يعرف التوحيد لغة واصطلاحاً-: "والأصل فيه أن التوحيد في أصل اللغة عبارة عما يصير به الشيء واحداً، كما أن التحريك عبارة عما به يصير به الشيء متحركاً، والتسويد عبارة عما به يصير الشيء أسوداً، ثم يستعمل في الخبر عن كون الشيء واحداً لما لم يكن الخبر صادقاً إلا وهو واحد، فصار ذلك كالإثبات، فإنه في أصل اللغة عبارة عن الإيجاب…"([55]) .
فَيعْنون بالتوحيد إثبات وحدانيته سبحانه ونفي المثل عنه، وأدرجوا تحته نفي صفات الله سبحانه، فهم لا يصفون الله إلا بالسلوب، فنفوا عن الله سبحانه وتعالى الجسمية والجوهرية والعرضية، وما يلق وصف الجسمية من أوصاف كالوجود في المكان والتحرك والذهاب والمجيء وأيضا الجوارح والأعضاء وغير ذلك من الأوصاف، ولقد أوجز الأشعري مجمل عقيد المعتزلة ، فذكر "أنهم قالوا عن الله تعالى إنه ليس بجسم، ولا شبح، ولا جثة، ولا صورة، ولا لحم، ولا دم، ولا شخص، ولا جوهر، ولا عرض، ولا بذي لون، ولا طعم، ولا رائحة، ولا بذي حراراة، ولا رطوبة، ولا يبوسة، ولا طول، ولا عرض، ولا عمق، ولا اجتماع ولا افتراق، ولا يتحرك ولا يسكن، ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء، وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهة، ولا يحيط به مكان، ولا يجوز عليه الحلول في الأماكن، ولا يجري عليه زمان، ولا يوصف بصفات المخلوقين الدالة على حدوثهم، ولا تجري عليه الآفات، ولا تحل به العاهات، وكل ما خطر بالبال وتصور بالوهم فغير مشبه له"([56]).
إذن، فإن التوحيد عند المعتزلة هو الاعتقاد بأن الله تعالى منزه عن الشبيه والمماثل (ليس كمثله شيء) ولا ينازعه أحد في سلطانه ولا يجري عليه شيء مما يجري على الناس. ولا يكون التوحيد إلا بإثبات صفات هي هي الذات أو هي عين الذات، وإنهم اعتبروها وجوها واعتبارات للذات دون أن توجب تكثرا فيها، إذ إن يتعارض مع وحدانية الذات، وبذا يكون المعتزلة قد أثبتوا الصفات وكلنهم عطلوا معانيها كما يتضح فيما بعد.
مفهوم التوحيد عند الأشاعرة
يذهب الأشعرية إلى أن الباري سبحانه وتعالى واحد أحد موجود فرد، متقدس عن قبول التبعيض والانقسام، وأنه لا مثيل له ولا ونظير، وقد أشار بذلك الإمام الحرمين في كتابه "الإرشاد" أن الله واحد أي ليس مركب من أجزاء داخلية، ولا يوجد له شريك خارجي، والدليل على أنه تعالى غير مؤلف أنه لو كان كذلك، تعالى الله عنه وتقدس، لكان كل بعض قائما بنفسه عالما حيا قادرا، وذلك تصريح بإثبات إلهين، وذلك لأن حكم العلم يختص بما قام به، وكذلك القول في باقي الصفات، ولو قدر بعضين وحكم بقيام العلم والقدرة والحياة بأحدهما، فهو الإله، ويكون البعض الآخر غير متصف بأوصاف الألوهية. والدليل على أن الله واحد لا مثل له ولا نظير، أنه لو قدر إلهين وفرضنا وجود جسم وقدرنا من أحدهما إرادة تحريكه ومن الثاني إرادة تسليمه، فيؤدي ذلك إلى وجوه كلها مستحيلة، وذلك أننا لو فرضنا نفوذ إرادتيهما، ووقوع مراديهما لأفضى ذلك إلى اجتماع الحركة والسكون في المحل الواحد وهذا مستحيل، ويستحيل أيضا ألا تنفذ إرادتهما، فإن ذلك يؤدي إلى خلو المحل القابل بالحركة والسكون عنهما، وهذا مستحيل، ويؤدي أيضا إلى إثبات إلهين عاجزين قاصرين عن تنفيذ المراد ، والعجز ينافي الألوهية، ويستحيل أيضا الحكم بنفوذ إرادة أحدهما دون الثاني، إذ في ذلك تعجيز من لم تنفذ إرادته فلا يكون إلها، وإذا بطلت هذه الوجوه الثلاثة فيتعين ثبوت إله واحد وهو المطلوب([57]).
وفي موطن آخر يشرح الشهرستاني معنى الواحد وحدانية الله سبحانه وتعالى عند الأشاعرة، فيقول الواحد هو الشيء الذي لا يصح انقسامه إذ لا تقبل ذاته القسمة بوجه، ولا تقبل الشركة بوجه، فالباري تعالى واحد في ذاته لا قسم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له([58]).
ويبيِّن الإمام الغزالي وحدانية الله سبحانه وتعالى قائلا: "والواحد قد يطلق ويراد به أن لا يقبل القسمة أي لا كمية له ولا جزء ولا مقدار، والباري تعالى واحد بمعنى سلب الكمية المصححة للقسم عنه، فإنه غير قابل للانقسام، إذ الانقسام لما له كمية والتقسيم تصرف في كمية بالتفريق والتصغير وما لا كمية له لا يتصور انقسامه.
    وقد يطلق الواحد ويراد به أن لا نظير له في رتبته ، كما تقول الشمس واحدة، والباري واحد بهذا المعني أيضا، فإنه لا ند له ولا ضد. فأما أنه لا ضد له فظاهر ، إذ المفهوم من الضد هو الذي يتعاقب مع الشيء على محل واحد ، ولا تجامع بينهما، وما لا محل له فلا ضد له، والباري سبحانه لا محل له فلا ضد له.
    وأما معنى أنه لا ند له، فمعناه أن ما سواه هو خالقه لا غير، والدليل على ذلك: أنه لو قدر له شريك لكان مثله في كل الوجوه أو أرفع منه أو دونه، وكل ذلك محال فالنفس إليه محال ووجه استحالة كونت أي الند -تعالى الله عن ذلك- مثله من كل وجه أن كل اثنين متغايران، فإنه لو لم يكن تغاير لم تكن الاثنينية معقولة، فإن لا نعقل سوادين إلا في محالين، أو في محل واحد في وقتين، فيكون أحدهما مفارقا للآخر، ومباينا له ومغايرا، إما في الحل وإما في الوقت، فيكون الفرق بينهما إما في المحل أو في الزمان، فإن فرض سوادان مثلا في جوهر واحد في حالة واحدة كان محالا إذ لم تعرف الاثنينية، ولو جاز أن يقال هما اثنان ولا مغيرة لجاز أن يشار إلى إنسان واحد، ويقال أنه إنسانان بل عشرة وكلها متساوية متماثلة في الصفات والمكان، وذلك محال بالضرورة، فإن كان ندا لله سبحانه -تعالى عن ذلك- مساويا له في الحقيقة والصفات استحال وجوده، إذ ليس هناك مغايرة بالمكان والزمان، إذ لا زمان ولا مكان فإنهما قديمان، فإذا لا فرقان، وإذا ارتفع منه كل فرق ارتفع العدد بالضرورة ولزمت الواحدة.
    ومحال أن يقال يخالفه بكونه أرفع منه ، فإن الأرفع هو الإله ، والإله هو الذي يقال فيه القول المطلق أنه أرفع الموجودات وأجلها . ومحال أن يقال إنه أدنى منه ، لأنه ناقص ، ونحن نعبر بالإله عن أجل الموجودات ، فلا يكون الأجل إلا واحدا وهو الإله([59]).
    هكذا يعتمد الأشعرية في إثبات وحدانية الله تعالى على دليل التمانع المشهور عند المتكلمين. وفي وموطن آخر يؤكد الرازي استحالة التعدد والاشتراك في الذات، لأنهما لو اشتركا في الألوهية، واختلفا في أمر واحد، وما به المشاركة غير ما به الممايزة، فيكون كل واحد منهما مركب، وكل مركب ممكن، وكل ممكن محدث، فالإلهان بذلك محدثان، وأن الذي اختلفا فيه يكون خارجا عن صفات الألوهية، فيكون ذلك نقضا([60]).
مفهوم التوحيد عند الماتريدية
    ذهب الماتريدية إلى الإثبات بأن الله تعالى واحد في ذاته، لا قسيم له، ولا جزء له، واحد في صفاته، لا شبيه له، واحد في أفعاله، لا يشاركه أحد في إيجاد المصنوعات، فالإله عندهم هو: القادر على الاختراع. وأثبتوا لله تعالى أسماءه الحسنى، إذ لا يستلزم إثباتها التشبيه، يقول الماتريدي: "الأصل عندنا أن لله أسماء ذاتية يسمى بها نحو قوله: الرحمن. ثم الدليل على ما قلنا مجي الرسل والكتب السماوية بها، ولو كان في التسمية بما جاءت به الرسل تشبيه، لكانوا سبب نقض التوحيد"([61]).
وذهب الإمام الماتريدي مثل ما ذهب إليه سائر أهل السنة إلى أن أسماء الله تعالى توقيفية، فلا يسمَّى الله تعالى إلا بما سمى به نفسه، وجاء به الشرع، إذن فلا يجوز إطلاق اسم الجسم على الله، إذ لا دليل سمعي يبيح ذلك، فلفظ الجسم ليس من أسمائه تعالى، وكذلك لا دليل عقلي يسمح بإطلاق اسم الجسم عليه سبحانه، لأن الجسم اسم لذي الأبعاد الثلاثة، وما يحتمل التجزئة والتبعيض واللون والطعم ونحو ذلك([62]) . يقول الماتريدي مؤكدا ذلك القول: "لا يجوز أن يقال لله تعالى يا مبارك ... لأنه لا يعرف في أسمائه هذا بالنقل، وعلينا أن نسكت عن تسميته بما لم يسم نفسه" ([63]).
ويقول أبو المعين النسفي: "إن معنى الاسم لو كان ثابتا من غير إحالة، لامتنعنا عن إطلاق الاسم بدون الشرع الوارد به، لأنا ننتهي في أسماء الله تعالى إلى ما أنهانا إليه الشرع، ولهذا لا نسميه طبيبا، وإن كان عالما بالأدواء والعلل والأدوية، ولا فقيها، وإن كان عالما بالأحكام ومعانيها ..."([64]). وقال أبو البركات عبد الله النسفي (تـ 710هـ) في بيان الإلحاد في أسمائه تعالى: "فيسمون بغير الأسماء الحسنى، وذلك أن يسموه بما لا يجوز عليه، نحو أن يقولوا: يا سخي، يا رفيق، لأنه لم يسم نفسه بذلك، ومن الإلحاد تسميته بالجسم، والجوهر، والعقل، والعلة"([65]).
    وفيما يتعلق بمسألة الاسم والمسمى، فقد ذهب الماتريدية إلى القول بأن الاسم هو المسمَّى، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: )تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ( -الرحمن: 78-، وقوله تعالى: )سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ( -الأعلى: 1-، وكذلك استدلوا بالعقل، حيث قالوا بأن الله هو الخالق وما سواه مخلوق، فلو كانت أسماؤه غيره لكانت مخلوقة، وللزم أن لا يكون له اسم في الأزل. وقال البزدوي: "إن الدليل يضطرنا وكل عاقل إلى القول بأن الاسم نفس المسمى، فإن الناس أمروا بأن يعبدوا الله تعالى، ويوحدوا الله تعالى، ويعظموه ويكبروه ويهللوه، ولو أن الاسم غير المسمى لكان هذا خطأ"([66]).
وقد أكّد بذلك أبو المعين النسفي قائلا: "اعلم أن الاسم والمسمى واحد ... والله تعالى بجميع أسمائه واحد، ودليلنا قول الله عز وجل: )فَاعْبُدُ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّيْن( -الزمر: 1-، وقوله تعالى: )وَمَا أُمِرُوْا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ إِلَهًا وَاحَدًا( -التوبة: 31-، الله أمرنا بأن نوحد الله تعالى، فلو كان اسم الله غير الله لكان حصول التوحيد للاسم لا لله تعالى"([67]).
مفهوم التوحيد عند الظاهرية
 
   أثبت الظاهرية -كغيرهم من المذاهب العقائدية الإسلامية- وحدانية الله تعالى، ويرى أن أسماء الله تعالى توقيفية، فلا يجوز أن يخبر عن الله تعالى، ولا أن يسمى باستدلال البتة، لأنه بخلاف كل ما خلق، فلا دليل يوجب تسميته بشيء من الأسماء التي يسمى بها شيء من خلقه، ولا أن يوصف بصفة يوصف بها شيء من خلقه، ولا أن يخبر عنه بما يخبر به عن شيء من خلقه، إلا أن يأتي نص بشيء من ذلك، فيوقف عنده، فمن وصفه تعالى بصفة يوصف بها شيء منه خلقه، أو سماه باسم يسمى به شيء من خلقه، استدلالا على ذلك بما وجد في خلقه، فقد شبهه تعالى بخلقه، وألحد في أسمائه، وافترى الكذب، ولا يجوز أن يسمى الله تعالى، ولا يخبر عنه إلا بما سمى به نفسه، أو أخبر به عن نفسه، في كتابه، أو على لسان رسول الله e، أو صح به إجماع جميع أهل الإسلام المتيقن، ولا مزيد، حتى وإن كان المعنى صحيحا، فلا يجوز أن يطلق عليه تعالى اللفظ([68]). يقول ابن حزم: "ومن قال إن الله تعالى جسم لا كالأجسام فليس مشتبها لكنه الحد في أسماء الله تعالى إذ سماه عز وجل بما لم يسم به نفسه وأما من قال أنه تعالى كالأجسام فهو ملحد([69]).
ومن هنا، فقد أثبت ابن حزم لله تعالى الأسماء التي سمَّى بها نفسه كالعالم لقوله تعالى: )أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ( -النساء: 166-، والسميع البصير لقوله تعالى: )إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيْعًا بَصِيْرًا( - النساء: 57-. فكل هذه أسماء الله تعالى وليست بصفات له، ويرى أن الله سميع بذاته لا بسمع، وبصير بذاته لا ببصر([70]). وقد انتقد ابن تيمية هذا القول فرأى أنه مثل الذين أثبتوا سميعا بلا سمع ، بصيرًا بلا بصر كمثل من أثبت متحركا بلا حركة، ومتكلما بلا كلام، ومصليا بلا صلاة، ونحو ذلك مما فيه إثبات اسم الفاعل، ونفى مسمى المصدر اللازم لاسم الفاعل. ومن أثبت الملزوم دون اللازم كان قوله باطلا([71]).
    ويرى أنه لا يجوز أن يُطْلقَ على الله صفات أو القول بأن لله صفة كذا وكذا، لأنه لم يرد ذكرها في القرآن والسنة، ولا في أقوال الصحابة أو التابعين، إذ يقتضي منهجه الظاهري الاقتصار على هذه المصادر وحده ، وما عدا هذا فبدعة عنده، يقول ابن حزم: "وأما إطلاق لفظ الصفات لله تعالى فمحال لا يجوز، لأن الله تعالى لم ينص قط في كلامه المنزل على لفظة الصفات ، ولا على لفظة الصفة، ولا حفظ عن النبي e بأن لله تعالى صفة أو صفات، ولا جاء قط ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولا عن أحد من خيار التابعين، ولا عن أحد من خيار تابعي التابعين، وما كان هكذا، فلا يحل لأحد أن ينطق به، ولو قلنا: إن الإجماع قد تيقن على ترك هذه اللفظة لصدقنا، فلا يجوز القول بلفظ الصفات، ولا اعتقاده، بل هي بدعة منكرة" ... وقد أرجع ابن حزم إطلاق لفظ الصفات إلى المعتزلة وهشام بن الحكم ونظراؤه من رؤساء الرافضة، وسلك سبيلهم قوم من أصحاب الكلام، سلكوا غير مسلك السلف الصالح، وربما أطلق هذه اللفظة من متأخري الأئمة من الفقهاء من لم يحقق النظر فيها، فهي وهلة من فاضل، وزلة من عالم([72]).
    وقد استدل ابن حزم على ما ذهبوا إليه بقوله تعالى: )سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُوْنَ( -الصافات: 180-، فتدل هذه الآية عنده على أنه تعالى أنكر إطلاق الصفات جملة([73]). ويرى ابن تيمية أن إثبات الأسماء دون الصفات سفسطة في العقليات وقرمطية في السمعيات([74]).
    هكذا رفض ابن حزم -استنادا إلى مذهبه الظاهري- إطلاق القول بالصفات الإلهية، فالأحسن عنده هو إطلاق القول بأسماء الله تعالى. إلا أنه لم يلتزم بموقفه السابق، حيث أنه وقع هو نفسه فيما حذر منه حين قال: "تناقضوا وتلاعبوا بصفات ربهم تعالى وبدينهم"([75]). وفي موضع آخر يقول صراحة: " كلام الله صفة قديمة من صفاته". "إنه صفة فعل لا صفة ذات"([76]).
    وأمر آخر يجدر بالإشارة إليه هنا، هو موقفه من مصطلح "القديم"، إذ أنه رفض هذا الإسم، لأن الله تعالى لم يسم به نفسه، كما أنه تعالى قد قال: )كَالْعُرْجُوْنِ الْقَدِيْمِ( -يس: 39 -، فصح أن القديم من صفات المخلوقين، فلا يجوز أن يسمى الله تعالى بذلك، وإنما يعرف القديم في اللغة من القديمة الزمانية، فيقال: إن هذا الشيء أقدم من هذا بمدة محصورة، وهذا منفي عن الله عز وجل ... وقد أعنى الله عن هذه التسمية بلظفة "أول"، فهذا هو الاسم الذي لا يشاركه تعالى فيه غيره، وهو معنى أنه لم يزل "([77])
وقد وافق ابن حزم المعتزلة في مفهومهم للتنزيه من حيث إنه وصف الله تعالى بصفات سلبية، أو نفي صفات المخلوقين عنه تعالى، وفي هذا يقول ابن حزم: "إننا ننفي عن الباري تعالى جميع صفات العالم، فنقول: إن تعالى لا يجهل، ولا يغفل البتة، ولا يسهو، ولا ينام، ولا يحس، ولا يخفى عليهم متوهم، ولا يعجز عن مسؤل عنه ... لأنه تعالى بخلاف خلقه من كل وجه ، فإذا كان ذلك كذلك، فواجب نفى كل ما يوصف به شيء مما في العالم عنه تعالى على العموم"([78]).
هكذا نفي الظاهرية وصف الله تعالى بصفات سلبية، أو نفي التشبيه والمماثلة بين الخالق والمخلوق، فيقتضي التنزيه نفي الجسمانية عن الله تعالى، إذ إن المخلوقات في هذا العالم أجسام، فإذا كنا نصف ما في العالم من موجودات بأنها أجسام، فواجب أن ننفي عن الله سبحانه وتعالى صفة الجسمانية.
وفي موطن آخر خالف ابن حزم المعتزلة في تأويل الصفات الخبرية كالجهة، حيث إن المعتزلة قرروا بأن الله تعالى في كل مكان مستدلين بقوله تعالى: )مَا يَكُوْنُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ( -المجادلة: 7-، وقوله تعالى: )وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيْدِ( -ق: 26-، وقوله تعالى: )وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُبْصِرُوْنَ( -الواقعة: 85-. وقد فند ابن حزم استدلال المعتزلة بهذه الآيات، لأنها تدل على التدبير أو الإحاطة فقط، لانتفاء ما عدا ذلك، وأما قول المعتزلة بأنه تعالى في كل مكان، فرد عليهم بأنه يلزم بموجب هذا القول أنه تعالى يملأ الأماكن كلها، وأن يكون ما في الأماكن فيه الله تعالى، وهذا محال"([79]).
ومن ناحية أخرى، يحتجّ ابن حزم على علماء السلف -كابن حزيمة وابن حنبل وابن تيمية والذهبي- لقولهم بأن الله تعالى في مكان دون مكان، فقال: "وذهب قوم إلى أن الله تعالى في مكان دون مكان، وقولهم هذا يفسد بما ذكرنا آنفا، ولا فرق"([80]). وأصح الأقوال عند ابن حزم هو القول بأن الله تعالى لا في مكان ولا في زمان أصلا، وعلى الرغم من أن هذا القول هو أحد قولي المعتزلة وبالتحديد قول هشام الفوطي المعتزلي، والغريب أنه ينسب هذا الرأي إلى أهل السنة، حيث قال: "وهو قول الجمهور من أهل السنة، وحجته في هذا قول الله تعالى: )أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيْطٍ( -فصلت: 54-. فهذا يوجب ضرورة أنه تعالى لا في مكان، إذ لو كان في المكان، لكان المكان محيطا به من جهة ما أو من جهات، وهذا منتف عن الباري تعالى بنص الآية السابقة"([81]).
    وفي تأويل النزول والمجيء والإتيان، يذكر ابن حزم أنه قد صح عن الرسول e أنه أخبر أنه تعالى ينزل كل ليلة، إذ بقى ثلث الليل إلى سماء الدنيا، وهذا النزول في رأي ابن حزم إنما هو فعل يفعله الله تعالى في سماء الدنيا، من الفتح لقبول الدعاء، وأن تلك الساعة من مظان القبول والإجابة والمغفرة للمجتهدين والمستغفرين والتائبين. وهذا معهود في اللغة. تقول: نزل فلان عن حقه بمعنى وهبه لي، وتطوع به. ومن البرهان على أنه صفة فعل لا صفة ذات، أن الرسول e علق التنزيل المذكور بوقت محدود، فصح أنه فعل محدث في ذلك الوقت مفعول حيئنذ، وقد علمنا أن ما لم يزل، فليس متعلقا بزمان التبة . لذلك فند ابن حزم قول من جعل النزول في الحديث المذكور انتقالا، فلو انتقل تعالى، لكان محدودا، مخلوقا، شاغلا لمكان، وهذه صفة المخلوقين. وقد حمد الله إبراهيم عليه السلام، إذ بين لقومه القمر أنه ليس ربا، فقال: )فَلَمَّا أَفِلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الْآفِلِيْنَ( -الأنعام: 76-، وكل منتقل عن المكان فهو آفل عنه، تعالى الله عن ذلك . وكذلك القول في قوله تعالى: )وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا( -الفجر: 22-، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: )هَلْ يَنْظُرُوْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةِ( -البقرة: 210-. فيرى ابن حزم أن المجيء والاتيان يوم القيامة فعل يفعله الله تعالى في ذلك اليوم، يسمى ذلك الفعل مجيئا وإتيانا. ويروى عن أحمد بن حنبل أنه قال: "وجاء ربك" إنما معناه: وجاء أمر ربك([82]).
ويلاحظ أن ابن حزم ههنا منطقي مع نفسه، فقد سبق أن رأيناه ينفي الحركة عن الله عز وجل، ويتصوره تعالى محركا ليس بمتحرك([83]).
ويعرض ابن حزم للآيات التي ذكرت فيها اليد لله تعالى، مثل قوله تعالى: )إِنّ الّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ( -الفتح: 10-، وقوله تعالى: )قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ( -ص: 75-، وقوله تعالى: )وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ( -المائدة: 64-، وقوله تعالى: )أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ( - الآية: 71-، وقول الرسول e عن يدي الرحمن "وكلتا يديه يمين"([84]).
ومن خلال هذه الآية الكريمة أبطل ابن حزم ثلاثة أقوال:
-        الأول: قول المجسِّمة الذين أثبتوا لله تعالى اليد.
-        والثاني: قول أبي الحسن الأشعري الذي أثبت لله تعالى يدين، ويدخل قول الأشعري ضمن مذهب المجسمة.
-        والثالث: قول المعتزلة الذين أولوا اليد بالنعمة ، فهذه الأقوال كلها لا معنى لها وأنها دعوى بلا برهان. وفي هذه المسألة مال ابن حزم إلى مذهب أهل السنة فقال: "إن هذا إخبار عن الله تعالى، لا يرجع في ذكر اليد إلى شيء سواه تعالى، ونقر أن لله تعالى –كما- قال يدا، ويدين، وأيدي"([85]).
إذن، فموقف ابن حزم من اليد هو الامتناع عن الخوض في بحث ماهيته أو كيفيته، وهذا ما ذهب إليه السلف.