Friday, June 22, 2012

أفعال العباد عند المعتزلة

أفعال العباد عند المعتزلة
الدكتور/ كمال الدين نور الدين مرجوني
رئيس قسم الدعوة والإدارة الإسلامية
جامعة العلوم الإسلامية الماليزية
تتعلق هذه المسألة بالأصل الثاني من الأصول الخمسة للمعتزلة وهو "العدل" حيث يرى المعتزلة أن أفعال العباد مخلوقة لهم، وليست من خلق الله، بل ولا يقدر على خلقها عند بعضهم، إذ هو سبحانه لا يقدر على الظلم ولا يريده لأنه لا يحبه ولا يرضاه، ومن ثَم أوجبوا على الله تعالى أن يفعل الصالح للعباد، كذلك فالعباد وحدهم قادرون على إدراك الخير والشر والحسن والقبح بالعقل دون الشرع، إذ في الأشياء ذاتها قبح وحسن ذاتي، ومن ثم فهم محاسبون ومعاقبون على أفعالهم، ورد الشرع بذلك أم لا. فالله على هذا الأصل -أي العدل- عند المعتزلة لا يخلق أفعال العباد، ولا يحب الفساد، بل إن العباد يفعلون ما أمروا به وينهون عما نهوا عنه بالقدرة التي جعلها الله لهم وركبها فيهم، وأنه لم يأمر إلا بما أراد ولم ينه إلا عما كره، وأنه ولي كل حسنة أمر بها، بريء من كل سيئة نهى عنها، لم يكلفهم ما لا يطيقون ولا أراد منهم ما لا يقدرون عليه. أو بتعبير آخر أن العدل عند المعتزلة معناه أن الله لا يفعل الظلم. يقول القاضي عبد الجبار مبينا معنى العدل: " أن أفعاله -أي الله- كلها حسنة، وأنه لا يفعل القبيح، ولا يخل بما هو واجب عليه"([1]).
ولما كان الإنسان يأتي أفعالا فيها ظلم كالسرقة، والكذب، والقتل، فإن هذه الأفعال لا يمكن أن تنسب إلى الله، لا يمكن أن يكون هو خالقها. وإذن فيجب أن تنسب إلى الإنسان وحده. لذلك قرروا بأن الإنسان يخلق أفعاله. وله حرية الإرادة وقدرة على الفعل وبالتالي مسئوليته عن ما يفعل. وفي ذلك يبين القاضي عبد الجبار بأن المراد بالعدل هو أن أفعاله كلها حسنة، وأنه لا يفعل القبيح، ولا يخل بما هو واجب عليه([2]). فالمعتزلة ينزهون الله تعالى عن فعل القبيح، حتى أنهم نفوا أن يكون خالقاً لأفعال العباد لما فيها من القبيح([3]). كما ينزهونه تعالى عن الإخلال بما هو واجب عليه .
وبناء على هذا ، فإنهم يرون أن الله سبحانه وتعالى لا يفعل القبيح بوجه من الوجوه، وكما أنه لا يفعله ، فكذلك لا يريده.
          والجدير بالذكر أن البحث في العدل عند المعتزلة هو بحث في أفعال الله وأفعاله تأتي بعد إثباته وإثبات صفاته، وعلى ذلك فمجيء العدل بعد التوحيد لأنه ينبني عليه. يقول القاضي عبد الجبار: "وأما الأصل الثاني من الأصول الخمسة، وهو الكلام في العدل، وهو كلام يرجع إلى أفعال القديم تعالى، وما يجوز عليه وما لا يجوز، فلذلك أوجبنا تأخير الكلام في العدل عن الكلام في التوحيد…"([4]) .
واستدل المعتزلة على قولهم بأنه تعالى لا يريد القبيح بأدلة من النقل والعقل. وقد بين القاضي عبد الجبار هذه الأدلة فقال: "إن كتاب الله المحكم يوافق ما ذكرناه من القول بالتوحيد والعدل"([5]) . ثم أورد بعض الآيات مستدلاً بها على أن الله لا يريد القبيح، كقوله تعالى: ]وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ[ -سورة البقرة، الآية: 205-، وقوله تعالى : ]وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ( -سورة الزمر: 7-، ثم أكَّد بأن: " هذه الآيات تدل على أنه تعالى لا يريد الفساد، ولا يحبه، سواء كان من جهته أو من جهة غيره…"([6]). وفي موضع آخر علق القاضي عبد الجبار قول الله تعالى: ]وَمَا اللهُ يُرِيْدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ[ -سورة غافر، الآية: 31 -. "إن قوله (ظلماً) نكرة، والنكرة في النفي تعم، فظاهر الآية يقتضي أنه تعالى لا يريد شيئاً مما وقع عليه اسم الظلم"([7]).
          إذن، فإن المعتزلة يرون أن الله تعالى لا يفعل القبيح، كالظلم، بل أفعاله كلها حسنة، وأنه لا يخل بما هو واجب عليه، ثم إنهم يرتبون على قولهم إن الله لا يفعل القبيح: القول بأن العبد هو الخالق لأفعاله، لأن منها ما هو الحسن، ومنها القبيح، فلو كان الله خالقها لكان فاعلاً للقبيح. وأما الدليل العقلي الذي استدل به المعتزلة على أنه تعالى لا يريد القبيح فقال القاضي: "إن إرادة القبيح قبيحة"، ثم علل ذلك بقوله: "إن إرادة القبيح إنما تقبح لكونها إرادة للقبيح بدليل أنها متى عرف كونها على هذه الصفة عرف قبحها"([8]) . فالعدل عند المعتزلة إن دل على شيء فإنه يدل على إنكار القدرة العامة، لأن الله -في رأيهم- لا يقدر على خلق أفعال العباد، كيف يخلقها ثم يعذب العصاة، ويثيب المطيعين، وإذا ثبت أن الله هو الذي خلقها فكيف يعذب عليها ؟ فلم يخلقها الله، ولا يقدر الله على ذلك، وليس لله قدرة على أفعال العباد، وليس الله عندهم على كل شيء قدير، وقدرة العبد عندهم تغلب قدرة الله – تعالى الله عن قولهم–، وعندهم أنه لا يقدر أن يهدي من يشاء، ولا يضل من يشاء، ولا يعطي من يشاء، ولا يمنع من يشاء، كل هذا عندهم يسمونه عدلاً. فحسن الأفعال وقبحها، والثواب عليها والعقاب يعرف بالعقل. وهذا ما أكد عليه أبو الهذيل العلاف، حيث قال: " يجب على المكلف قبل ورود السمع … أن يعرف الله تعالى بالدليل من غير خاطر، وإن قصر في المعرفة استوجب العقوبة أبداً، ويعلم أيضاً حُسن الحَسن، وقُبح القَبيح، فيجب عليه الإقدام على الحسن كالصدق والعدل، والإعراض عن القبيح، كالكذب والفجور"([9]).
وأورد الإمام الغزالي رأي المعتزلة في هذه المسألة فقال: "ذهب المعتزلة إلى أن الأفعال تنقسم إلى حسنة وقبيحة، فمنها ما يدرك بضرورة العقل، كحسن إنقاذ الغرقى والهلكى، وشكر المنعم، ومعرفة حسن الصدق وقبح الكفران ... ومنها ما يدرك بنظر العقل كحسن الصدق الذي فيه ضرر وقبح الكذب الذي فيه نفع، ومنها ما يدرك بالسمع كحسن الصلاة وسائر العبادات، وزعموا أنها متميزة بصفة ذاتها عن غيرها بما فيها من اللطف المانع من الفحشاء الداعي إلى الطاعة، ولكن العقل لا يستقل بدركه …."([10]). ويعد ابن حزم هذا القول أي العدل أصل ضلالة المعتزلة، ذلك جمهورهم قالوا: وجدنا من فعل الجور في الشاهد كان جائرا، ومن فعل الظلم كان ظالما، ومن أعان فاعلا على فعله، ثم عاقبه عليه كان جائرا عابثا، قالوا: والعدل من صفات الله تعالى، والظلم والجور منفيان عنه، لقوله تعالى: ]وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيْدِ[ -سورة فصلت، الآية: 46-، وقوله تعالى: ]وَمَا ظَلَمُوْنَا وَلَكِنْ كَانُوْا أَنْفًُسهُمْ يَظْلِمُوْن[ -سورة البقرة، الآية: 57- ونحو ذلك. والجدير بالأشارة إلى أن بن حزم يوافق المعتزلة في أن الله عدل لا يجور ولا يظلم، ولكنه يخالفهم في معنى الظلم والجور، وفيما يقعون فيه من خطأ منهجي، إذ يقيسون الغائب على الشاهد، فيبين أن عقولهم حكمت على الله تعالى بأنه لا يحسن منه إلا ماحسنت عقولهم، وأنه يقبح منه تعالى ما قبحت عقولهم. وهذا هو تشبيه لله بخلقه، وهو خطأ وضلال، فضلا عن أنه يتعارض مع دعوتهم إلى التنزيه، وإنما الحق هو أن كل ما فعله الله أي شيء كان فهو منه تعالى حق وعدل وحكمة، وإن كان بعض ذلك منا جورا وسفها([11]).
          إذن، فإن الأفعال عند المعتزلة قد ثبت قبحها والعقاب عليها عقلاً، كما ثبت حسنها والثواب عليها عقلاً ما عدا العبادات.
وقد تفرَّعتْ عن مشكلة العدل الإلهي أيضا مشكلة إنسانية وهي تتعلق بمشكلة الجبر والاختيار، فهل أفعال العباد مخلوقة لهم، فتكون راجعة إلى اختيارهم المحض أم أنها ترجع القدرة الإلهية، وبذلك ينتفي مبدأ الاختيار؟.
أجاب المعتزلة بأن أفعال العباد محدثة منهم، وأنهم هم المحدثون لها، يقول القاضي عبد الجبار: "اتفق كل أهل العدل على أن أفعال العباد -من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة- من جهتهم، وأن الله عز وجل أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها، ولا محدث سواهم، وأن من قال إن الله سبحانه خالقها ومحدثها، فقد عظم خطؤه، وأحالوا حدوث فعل من فاعلين"([12]).
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ]الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ[ -سورة غافر، الآية: 17-، وقوله تعالى: ]كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ[ -سورة المدثر، الآية: 38-، وقوله تعالى: ]لَهُ مُعَقّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوَءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ[ -سورة الرعد، الآية: 11-، وقوله تعالى: ]الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمََنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ[ -سورة الملك، الآية: 3-، قالوا: والتفاوت هو من جهة الخلقة أو من جهة الحكمة، ولا يجوز التفاوت من جهة الخلقة لما عليه المخلوقات من نظام، والمراد هو التفاوت من جهة الحكمة، وأفعال العباد لا يصح أن تكون من جهة الله تعالى لاشتمالها على التفاوت، لأن في خلقة المخلوقات من التفاوت ما لا يخفى، فليس إلا أن المراد به التفاوت من جهة الحكمة على ما قلناه، وإذا ثبت هذا لم يصح في أفعال العباد أن تكون من جهة الله تعالى لاشتمالها على التفاوت وغيره([13]). وقالوا عن قوله تعالى: ]وَقُلِ الْحَقّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ[ -سورة الكهف، الآية: 29-، ففيه تفويض الأمر إلى اختيارنا([14]). وأولوا قول الله تعالى: ]خَالِدِيْنَ فِيهَا مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنّ رَبَّكَ فَعّالٌ لِّمَا يُرِيدُ[ -سورة هود، الآية: 107-، فالمراد به أنه تعالى فاعل لما يريده من فعل نفسه، ولا يجوز غير هذا، لأن الآية وردت مورد الامتداح، ولا مدح في أن يكون فاعلا لأفعال العباد وفيها القبائح([15]).
واستدلوا كذلك على ما ذهبوا إليه من إثبات قدرة العبد على أفعاله بأدلة عقلية، فقالوا إننا نفصل بين المحسن والمسيء، ونحمد المحسن على إحسانه، ونذم المسيء على إساءته، وهذا يعني نسبة أفعالهم إليهم([16]). وأضافوا بأن تصرفاتنا وقعت بحسب قصودنا ودواعينا وانتفاؤها بحسب كراهتنا مع سلامة الأحوال، فلولا أنها محتاجة إلينا ومتعلقة بنا، وإلا لما وجب ذلك فيها([17]). وأن أفعال العباد فيها ظلم وجور، وهذا لا يصح على الله تعالى([18]).
هكذا يُؤكِّد المعتزلةُ على قدرة الإنسان على أفعاله وأعماله، وأن الله لم يخلق أفعال العباد.
ولقد قسَّم المعتزلة أفعال العباد إلى قسمين: أفعال مباشرة، وأفعال متولِّدة. فأما الأفعال المباشرة: فاتفقوا على أنها مخلوقة للعباد. وأما أفعال المتولِّدة: فاختلفوا فيها. يقول القاضي عبد الجبار: "اتفق كل أهل العدل على أن أفعال العباد من تصرفهم، وقيامهم، وقعودهم، حادثة من جهتهم، وأن الله عز وجل أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها ولا محدث سواهم، وأن من قال أن الله سبحانه خالقها ومحدثها، فقد عظم خطؤه. وأحالوا حدوث فعل من فاعلَيْنِ([19]).
          وقد أكَّد القاضي عبد الجبار أن أفعالنا واقعة على حسب قصدنا، فوجب أن تكون خلقاً لنا وفعلاً لنا، قالوا: وبيان ذلك أن الواحد منا إذا أراد أَنْ يقومَ قامَ، وإذا أراد أَنْ يقعدَ قعد، وإذا أراد أَنْ يتحَرَّك تَحرَّكَ، وإذا أراد أن يسكن سكن، وغير ذلك، فإذا حصلت أفعاله على حسب قصده ومقتضى إرادته، دل على أن أفعاله خلق له وفعل له ([20]). وأن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم، وأنهم المحدثون لها، وتحريرها: هو أن هذه التصرفات يجب وقوعها بحسب قصودنا ودواعينا، ويجب انتفاؤها بحسب كراهتنا وصرفنا ، مع سلامة الأحوال، إما محققاً وإما مقدراً ، فلولا أنها محتاجة إلينا ومتعلقة بنا، وإلا لما وجب ذلك فيها"([21]). وفي موضع آخر صرح القاضي عبد الجبار بأن الإنسان هو خالق أفعاله وموجدها ومحدثها على الحقيقة لا المجاز، وإن القدرة التي أحدثها الله تعالى فيه تجعله وحده قادرا على إيجاد هذه الأفعال وإتيانها بحسب قصده ودواعيه، سواء ما يصدر منها عنه مباشرة أو بطريق غير مباشر مما هو على سبيل التولد"([22]).

وبهذا أكَّد المعتزلة على حرِّية الإنسان في الأفعال التي تصدر منه مباشرة ولا خلاف في إسناد ذلك الفعل للإنسان. أما بالنسبة للأفعال المتولدة، وهي الأفعال التي تقع بسبب مني وتحل في غيري، أو هي الفعل الذي أوجبت سببه، فخرج غير أنه لا يمكنني تركه، وقد يقع في نفسي أو في غيري، أو الفعل الذي يقع على سبيل الخطأ دون القصد والإرادة إليه، فهو بذلك فعل يحصل بتوسط آخر، فقتل الطفل قد تم بتوسط السهم، كأن يرمي الرامي بسهم فيقتل طفلا عن طريق الخطأ. وقد عرف المعتزلة أفعال التولد -كما يقول الإسكافي-: "وأفعال التولد: هي كل فعل يتهيأ وقوعه على الخطأ دون القصد إليه أو الإرادة له، فهو متولد، وكل فعل لا يتهيأ وقوعه إلا بقصد ، ويحتاج كل جزء منه إلى تجدد عزم وإرادة له، فهو خارج من حد التولد داخل في حد المباشرة". وعلى سبيل المثال: الألم  الحادث عند الضرب، والألوان الحادثة عند الضربة، ومثل انحدار الحجر الحادث عن طرحه، والإدراك الحادث عن فتح البصر، وما أشبهها من المسببات غير المقصودة.
والسؤال المطروح هو ما موقف المعتزلة من هذه الأفعال -أي أفعال المتولدة-؟
-       الموقف الأول: بالنسبة للجانب الطبيعي لهذه الأفعال -أي علاقة السبب بالمسبب- فلا خلاف بين المعتزلة على أن هذه الأفعال تقع من فاعلها ولا خلاف على أن السبب موجب للمسبب عند المعتزلة.
-       والموقف الثاني: أما بالنسبة للجانب الخلقي ومدى مسؤلية الإنسان عن هذه الأفعال، فاختلف المعتزلة في ذلك إلى عدة أقوال:
1)     ذهب العلاف إلى أن كل ما تولد عن فعله مما تعلم كيفيته فهو فعله، وذلك كالألم الحادث من الضرب ، وأنه قد يفعل في نفسه وفي غيره بسبب يحدثه في نفسه، أما اللذة والألوان والطعوم فذلك أجمع فعل الله سبحانه.
2)     وقال بشر بن المعتمر إنه يصح من الإنسان فعل الألوان والطعوم والروائح والرؤية وسائر الإدراكات، أي أن هذه الأفعال متولدة من الإنسان.
3)     ذهب النظام إلى أن المتولدات ليست فعلا للإنسان، ذلك لأنه كان يقول بأنه لا فعل للإنسان إلا الحركة، وأنه لا يفعل الحركة إلا في نفسه، أما الألوان والطعوم والأرايح والأصوات فهي أجسام لطيفة، والإنسان لا يفعل الأجسام.
4)     ذهب معمر إلى أن الإنسان لا يفعل في نفسه حركة ولا سكونا، وأنه يفعل في نفسه الإرادة والعلم وأنه لا يفعل في غيره شيئا.
5)     ذهب ثمامة اللأشرس إلى أن المتولدات لا فاعل لها، وأنه لا فعل للإنسان إلا الإرادة، وأن ما سواها حدث لا من محدث.
6)     قال الجاحط إن المتولد يقع من الإنسان على سبيل الطبع ، وليس باختيار له، وليس يقع منه فعل باختيار سوى الإرادة.
7)     ولقد عارض القاضي عبد الجبار القول بأن الأفعال المتولدة تحدث بالطبع، وأن هذا القول كقول أصحاب الطبائع، وأيضا من جعل المتولدات حدث لا محدث له، لأنه لا فرق بين بعضها والبعض في الاحتياج إلى محدث وفاعل([23]). وقال بإضافة هذه الأفعال للإنسان، وذاك لأن ذات السبب ذات منفصلة عن السبب، حادثة مثله، فكما أن السبب يضاف إلى الفاعل فكذلك المسبب، فيجب أن تستوي الحوادث في كونها مضافة إلى الفاعل، وإن كانت تختلف كيفية، ففيها ما يتعلق به بلا واسطة، كالمبتدأ (يقصد الفعل المباشر) وفيها ما لا يتعلق به إلا بواسطة وهو المتولّد([24]).
          ويذكر الإمام الأشعري رأي المعتزلة في أفعال المتولّدات بأنها تضاف للإنسان على سبيل المجاز، ولا يحاسب عليها إذا كان لا يستهدف الشر أو الخطأ([25]).
ويلاحظ أن استقصاء المعتزلة للبحث في مسؤولية الإنسان عن هذه الأفعال المتولدة ونسبتها إليه هو انعكاس لقولهم بمسؤولية الإنسان عن أفعاله، وهم معذورون بالنسبة لاختلافهم في الفعل المتولد، فلا زالت أحكام فوانيننا المعاصرة لا تقول برأي قاطع بصدد الإصابة أو القتل الخطأ، ويتراوح الحكم بين البراءة وتخفيف العقوبة([26]).
وعلى أية حال، فإن أفعال العباد -الأفعال المباشرة- عند المعتزلة تحصل بحسب قصودهم أي أن وقوع الكسب من الخلق على حسب القصد منهم لا غير. والقول بهذا -في زعمهم- تأكيد للعدل الإلهي. فجعلوا العبد حرا مختارا يفعل ما يشاء ويختار، ويدع ما يشاء دون تدخل من أي قوة خارجية.
ويبدو أن المعتزلة في ظاهر قولهم أقرُّوْا بحرية الإرادة الإنسانية، ولكن الحقيقة أن هذا القول انتقاص لمشيئة الله المطلقة، وإقرار بمشاركة الإنسان لله تعالى في خلقه وإحداثه لما يوجد ويحدث في هذا العالم من أمور. ذلك لزعمهم بأن الأفعال ليست مخلوقة لله، فلا هو صانعها ولا محدثها، وإنما هو خالق للجواهر أو الأجسام فقط، أما الأعراض على اختلافها فلا يوصف بالقدرة عليها ولا تنسب إليه في حدوثها، ذلك أن من هذه الأعراض ما يوجده الإنسان ويحدثه بإرادته وقدرته مثل الأكوان والاعتمادات والتأليفات، والأصوات، والآلام، ومنها ما يكون للأجسام بطبائعها مثل الطعوم والروائح والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والشهرة والنفرة والحياة والقدرة والفناء([27]).


0 komentar:

Post a Comment