Wednesday, June 6, 2012

لمحة عن علم الكلام

لمحة عن علم الكلام
الدكتور/ كمال الدين نور الدين مرجوني
رئيس قسم الدعوة والإدارة الإسلامية جامعة العلوم الإسلامية الماليزية
المقدمة:
إن أكثر المظاهر الفكرية في العصر الأموي نشأة علم الكلام، وقد نشأ هذا العلم لأسباب عدّة، منها: أسباب داخلية وأخرى خارجية. أما الأسباب الداخلية فتبدو من ثلاثة أوجه وهي:
1)    تعرض القرآن بجانب دعوته إلى التوحيد لأهم الفرق والمذاهب والديانات والمعتقدات التي كانت شائعة ومنتشرة في عهد النبي e فرد عليهم وفند أقوالهم، فكان طبيعياً أن ينتهج علماء المسلمين منهج القرآن في الرد على المخالفين للإسلام.
2)    كان المسلمون في العصر الأول في إيمان كامل وخالص من الجدل، ولما فرغ المسلمون من الفتوحات، واستقروا أخذوا ينظرون ويبحثون، فاستتبع هذا اختلاف وجهة نظرهم فاختلفت الآراء والمذاهب. وقد أشار الإمام الغزالي إلى هذا قائلا: "لما نشأتْ صنعةُ الكلامِ وكَثُرَ الخوضُ فيه ... تَشَوَّقَ المتكلمون إلى مجاوزة الذبِّ عن السنةِ بالبحث عن حقائق الأمور، وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض وأحكامها ... "([1]).
3)    خلافهم في المسائل السياسية كان سبباً في الخلاف الديني، وأصبحت الأحزاب فِرَقاً وأحزابا دينية لها رأيها: فحزب "علِيّ " تكوّن منه الشيعة، ومن لم يرضَ بعليٍّ t تكوَّن منهم الخوارج، ومن كره خلاف المسلمين كوّن فرقة المرجئة. ومن هنا كان الخصام السياسي نقطة انطلاق لتكوين مذهب عقدي متعدّد في الإسلام، وذلك لأن الخلاف السياسي ما لبث أن تحوّل إلى خلاف عقدي.
وأما الأسباب الخارجية فيمكن حصرها في ثلاثة أوجه وهي:
1)    دخل أُناسٌ إلى الإسلام وكانوا من ديانات مختلفة كاليهود والنصارى والمجوس والصائبة والبراهمة، وغيرها وقد أظهروا أحكام شرائعهم في لباس دينهم الجديد.
2)    جعلتِ الفِرقُ الإسلامية الأولى وخاصة المعتزلة همَّهَا الأوَّلَ الدِّفاعَ عن الدّينِ، والرد على المخالفين ، وكانت البلاد الإسلامية مُعَرَّضَةً لكل الآراء والديانات المختلفة والمتباينة، يحاول كل فريق تصحيح رأيه وإبطال رأي غيره، وقد تَسَلَّحَتِ اليهوديةُ والنصرانيةُ بالفلسفة فدرسها المعتزلة ليستطيعوا الدفاع بسلاح يُمَاثِلُ سلاحَ الهاجِ.
3)    حاجة المتكلمين إلى الفلسفة اضطرتهم إلى قراءة الفلسفة اليونانية والنطق والتكلم في شأنها والرد عليها.
إذن، فإنَّ الاحتكاكَ الثقافي واللقاء الحضاري بين المسلمين وغيرهم من الفرس والروم والهند، وكذلك الاتجاهات الحزبية والتعصبات القبلية كلها تُعَدُّ من دوافع نشأة علم الكلام. ولقد خاض المتكلمون في أمرين أساسيين هما: الإلهيات والطبيعيات. ففي الإلهيات بحثوا في صفات الباري وأفعاله وقدرته وعلمه وإرادته، إلى جانب البحث في مسائل القضاء والقدر والبعث والمعاد والنشور. وهذه المباحث سُمِّيَتْ بـ "جليل الكلام". ثم تَطَوَّرَ هذا العلم ببحث في أشياء العالم كلها: المادة، وصفاتها، وتحولاتها، وتفاعلاتها، والحركة، والسكون، والمكان، والزمان، والثقل، والممانعة، والوجود، والعدم وغير ذلك من الصفات الطبيعية والظاهرية، فخرجوا برؤيةٍ شاملةٍ قامتْ على جملة مبادئٍ وأُسسٍ عقليةٍ. وقد سُمِّيَتْ هذه المباحث فيما يُعرف بالأمور الطبيعية بـ ،"دقيق الكلام"([2]).
واختصار القول إِنَّ عِلْمَ الكلامِ لم ينشأ في الإسلام نتيجةَ سببٍ بِعَيْنِهِ، وإنما هو نتاجُ أسبابٍ متضامنةٍ، وعوامل متضافرة اقتضتْ وجوده على الصورة التي نراه عليها في تاريخ الفكر الإسلامي، فهناك عوامل منبعثة من داخل الجماعة الإسلامية ذاتها كالخلاف حول بعض النصوص الدينية، مما أَدَّى إلى اختلاف وجهات النظر في تفسير العقائد، والخوض في مشكلات عقائدية نظرية لم يعرفها الجيل الأول من المسلمين، وكالخلاف السياسي الحادث حول مسألة الإمامة، وهو الخلاف الذي أَدَّى إلى ظهور الفِرَقِ، وهو وإنْ كان سياسيًّا في منشئه إلا أنه تطوَّرَ فأصبحَ متعلِّقًا بالعقائد، وهناك عوامل وافدة من خارج الجماعة الإسلامية، أعانتْ على وجود علم الكلام وازدهاره وذلك مثل الاتقاء بحضارات وديانات وعقائد أخرى([3])
وعلى أية حال، فإن علم الكلام نشأ أول ما نشأ للدفاع عن العقيدة والدين، ثم ما لبث أَنْ تَحوَّلَ إلى أداة تستخدمه الفرق والطوائف والتيارات للدفاع عن آرائها واتجاهاتها. وبعد أَنْ كانتْ أدلتُه عقلية في خِدْمَة عقائد القرآن وآياته أصبح القرآن وآياته أداة في يد تلك التيارات والفرق والطوائف تطوعه لنصرة آرائها واتجاهاتها. الأمر الذي جعل طوائف غير قليلة من العلماء ترفضه وتشك في جدواه، وتطعن فيه –كما يتضح فيما بعد- في الحديث عن موقف العلماء من علم الكلام.

وبعد اختصار الحديث عن نشأة علم الكلام، فنعرض تعريفات لعلم الكلام ، نذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر، ففي كتاب (المواقف) للإيجي([4])، ذكر تعريف علم الكلام بأنه: "علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه، والمراد بالعقائد ما يقصد به نفس الاعتقاد دون العمل، وبالدينية المنسوبة إلى دين محمد"([5]). ويقصد الإيجي من هذا التعريف كما بَيَّنَهُ السيد الشريف الجرجاني أن إثبات العقائد على تحصيلها إشعار بأن ثمرة الكلام إثباتها على الغير، وبين العقائد يجب أن تؤخذ من الشرع ليعتد بها حتى ولو كانت مما يشتغل فيه . فالاعتقاد : كقولنا " الله عالم قادر سميع بصير"، فهذه تُسَمَّى اعتقادية وأصلية. والعمل كقولها " الوتر واجب، والزكاة فريضة، وهذه تُسَمَّى عملية وفرعية.
ويتلخص لنا من كلام الإيجي والجرجاني ثلاثة أمور:
1)    إن علم الكلام يشمل كلام أهل السنة وكلام المخالفين.
2)    إن العقائد يجب أن تؤخذ من الشرع.
3)    عدم التقليد في الأمور العقائدية.
وقريب من هذا التعريف، عرَّفَهُ الفارابي([6]) بأن علم الكلام هو: "مَلَكَةٌ يَقْتَدِرُ بها الإنسانُ على نصرةِ الآراء والأفعال المحدودة التي صرَّحَ بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل"([7]).
          ويلفت النظر في هذين التعريفين أن كلا من الإيجي والفارابي قد جعل الكلام يقوم على نصرة العقيدة الإسلامية دون تمييز بين الفرق الإسلامية، ومن ناحية أخرى نجد ابن خلدون([8]) يحصر التعريف في نصرة الاعتقادات على مذهب السلف وأهل السنة ويخرج باقي الفرق، فيقول: (هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل  السنة) ([9]).
وهذا يوافق ما ذهب إليه الغزالي([10]) فيقول: (وإنما  المقصود  منه –علم الكلام– حفظ عقيدة أهل السنة، وحراستها عن تشويش أهل البدعة)([11]). وهذا هو التعريف المشهور الذي عَبَّرَ عنه أَغْلَبُ مَنْ يشتغلون بهذا العلم.
أما التفتازاني فقد عَرَّفَ علمَ الكلاَمِ بأنَّه: "العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية" ([12]) . وهذا التعريف يختلف عن التعريف الأول من حيث تحديده وعدم الشمول، وقد أشار إلى هذا الشيخ مصطفى عبد الرازق بأن تعريف الإيجي شمل بجانب العقائد الإسلامية كلام المخالفين، بينما التفتازاني قد خصص الكلام بِمَا عُلِمَ من الدين قطعًا يقينيًا ([13])
ومن هذه التعريفات السابقة يمكننا أَنْ نستخْلصَ أَنَّ مبدأَ علمِ الكلامِ أسَاسُهُ حفظ العقيدة وإثباتها عن طريق الأدلة العقلية، وليس إنشاء العقيدة في قلب المؤمن، فهو بذلك يقوم بتوضيح العقيدة، وشرحها، وتدعيمها بالأدلة العقلية، وتمييزها عما يغايرها من عقائد وأصول منحرفة عن الدين، والرد على الشبه التي يوردها أصحاب الديانات المخالفة للإسلام. إذن، فقد جاء علم الكلام ليواجهَ جُمْلَةً من التحديات والإشكالات التي واجهت العقلَ المسلمَ على مستوى العقيدة.
وعلى هذا يمكننا القول بأَنَّ لعلمِ الكلاَمِ دورًا إيجابيًّا في إثبات صحة العقيدة بالعقل، وذلك أنه قد يحتاج بعض الناس إلى الأدلة العقلية على إثبات وجود الباري – سبحانه وتعالى – خاصة في عصرنا الحالي، لأن اشتغالهم بالنظر الطويل في الأمور الدقيقة جعلهم يرفضون كل معرفة لا تأتي بهذه الطريقة، فكلما كان الدليل أو البرهان أدق، وأوضح وأطول، كان أنفع لهم، لأنهم اعتادوا على ذلك، فإن كان الدليل قليل المقدمات لم يقنعوا بذلك. لذلك رأينا أن علماء الكلام لم يكونوا يستدلون فقط بالعقل على العقائد، وإنما كانوا يستدلون بالنقل أيضاً وكتبهم مليئة بالآيات والأحاديث ولكنهم في الحوار مع غير المسلمين لابد أن يستخدموا العقل في ذلك. ومن هنا، يقوم منهج المتكلمين على دعامتين أساسيتين هما العقل والنقل.
والجدير بالذكر أن اختلاف المذاهب العقائدية في القضايا العقدية ليس في لب العقيدة، ولكنه في مسائل فلسفية لا تمس لب العقيدة، وهي قضايا الوحدانية والصفات الإلهية، وأفعال العباد بين الجبر والاختيار، وكَوْنَ القرآنِ مخلوقًا أو غير مخلوقٍ، وقضايا السمعيات كرؤية الله تعالى كونها رؤية العين أو القلب وغيرها.
أسماء علم الكلام ومنهجه
          اختلفتْ أقوال العلماء في سبب تسمية هذا العلْم بـ "علم الكلام"، فيرى ابن خلدون أن التسمية بنيت "إما على ما فيه من المناظرة على البدع ، وهي كلام صرف ، وليست براجعـة إلى عمل، وإما لأن سبب وضعه والخوض فيه هو تنازعهم في إثبات الكلام النفسي"([14]). ويذكر التفتازاني في كتابه "شرح العقائد النسفية أن التسيمة بعلم الكلام لـ : "كثرة الخوض في المباحث العقدية وغلبة الكلام فيها لمنافحة الخصوم حملتا كتاب مقالات الفرق على تسمية هذه المباحث بالكلام"([15]) . ونُفضِّل ما ذكره ابن خلكان عن سبب هذه التسمية بأن أول خلاف وقع في الدين كان في كلام الله عز وجل أمخلوق أم غير مخلوق، فتكلم الناس فيه، فسمى هذا النوع من العلم كلاما واختص به([16]). وهذه التسمية هي متأخرة لكن قبل ذلك كان الكلام حول أصول الدين أو مسائل التوحيد، فقد ذكر أستاذي الدكتور مصطفى حلمي أن الصحابة تكلموا في أصول الدين([17]). وفي رواية أن الرسول e سئل عن بدء الخلق وكذلك سئل عن بشرية عيسى، فقد روى البخاري ومسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم شرح بعض مسائل أصول الدين لوفد بني تميم، ثم لوفد اليمن قائلا: "اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ لم يقبلها بنو تميم، فقالوا: قد قبلنا يا رسول الله ، جئناك نسألك عن هذا الأمر، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض"([18]). وما رواه مسلم أن الرسول e قال: "لا يزال الناس يسألونكم عن العلم حتى يقولوا هذا: الله خلقنا فمن خلق الله ، فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله" ([19]) . ويُعَدُّ المعتزلة أوّلَ من أطلق علم الكلام على المباحث العقائدية، فلقَّبها المشتغلون به بالمتكلمين، ويظهر أن الجاحظ من أوائل المستخدمين لهذا الاصطلاح، حيث إنه يكثر من استعماله في كتبه ورسائله، ومن ذلك قوله: "فإن كان الخطيب متكلما تجنب ألفاظ المتكلمين، كما أنه إن عبر عن شيء من صناعة الكلام واصفا، أو مجيبا أو سائلا، كان أولى الألفاظ به ألفاظ المتكلمين، إذ كانوا لتلك العبارات أفهم، وإلى تلك الألفاظ أميل، وإليها أحن، وأشغف، ولأن كبار المتكلمين ورؤساء النظارين كانوا فوق أكثر الخطباء، وأبلغ من كثير من البلغاء ([20]) .
ولعلم الكلام أسماء متعددة ومتنوعة يصعب للباحث حصرها، ذلك لاختلاف تصورات العلماء عنها، بل يسمي بعلم النظر والاستدلال لكثرة المناظرة فيه، وفيما يلي بعض أسماء هذا  العلم:
 علم الفقه الأكبر
ويعد الإمام أبو حنيفة النعمان (تـ 150هـ) أول من نسب هذا الاسم لعلم الكلام، وقد حرصت أتباعه على إذاعة هذه التسمية والعمل على شهرتها، وهذا يرجع إلى شهرة كتاب الإمام في هذا العلم وهو المسمى بـ "الفقه الأكبر" ، وقام بعض أتباعه وأنصار مذهبه الفقهي بشرح هذا الكتاب، ونذكر على سبيل المثال: الإمام الماتريدي في كتابه بعنوان واضح: "شرح الفقه الأكبر"، وكذا شرحه الملا علي القاري الحنفية وسماه "منح الروض الأزهر". وشرحه محيي الدين محمد بن بهاء الدين المتوفى : سنة 956 هـ, وجمع فيه: بين الكلام والتصوف وسماه : "القول الفصل ". وشرحه الشيخ أكمل الدين, وسماه "الإرشاد". ونظمه أبو البقاء الأحمدي في ثلاث وعشرين من رمضان سنة 918 هـ، وسماه "عقد الجوهر نظم نثر الفقه الأكبر". وكذلك نظمه: إبراهيم بن حسان الكرمياني المعروف: بشريفي المتوفى: سنة 1016 هـ.
ويرى الشيخ أبو زهرة أن نسبة الفقه الأكبر رواية حماد بن أبي حنيفة إلى أبي حنيفة ليست موضع إجماع من العلماء، كما يرى أن به بعض الموضوعات التي لم تكن مثارة آنذاك، مثل: كرامات الأولياء، والتفرقة بينها وبين ما يجري على أيدي الكفار، كما يذكر أن ترتيب أبي حنيفة للراشدين جاء في الفقه الأكبر على غير ما اشتهر عن أبي حنيفة حيث قدم عثمان على علي ([21]). ولكننا نرجح نسبة الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة لتوافق أكثر ما جاء فيه مع الكتب الأخرى لأبي حنيفة، وما نقله عنه أبو جعفر الطحاوي الحنفي. وأما ما ذكره الشيخ أبو زهرة، فمن وجهة نظرنا أنه يحتمل أن يكون أبو حنيفة قد غير بعض آرائه حسب علم وصل إليه من أدلة وجدت([22]).
علم أصول الدين
ويبدو أن هذه التسمية أكثرها دقة وشهرة واستعمالا، ققد ألَّف علماء الكلام كتبا كثيرة تحت عنوان هذه التسمية، رغم اختلاف مذاهبهم الكلامية، ومما يدل على ذلك كتاب لمؤسس المذهب الأشعري بعنوان: "الإبانة عن أصول الديانة"، وشرح ابن بطة العكبري الحنبلي (تـ387هـ) هذا الكتاب بعنوان: "الإبانة على أصول السنة والديانة" ولعل المؤلف أضاف التسمية بأصول السنة يهدف إلى بيان أن هذا العلم مُقَيَّدٌ بالسنة النبوية، وليس مجرد علم كلام بحت، وكتاب لعبد القاهر البغدادي الأشعري (تـ439هـ ) بعنوان: "أصول الدين"، وكتاب للقاضي أبو يعلى الفراء الحنبلي (تـ 458هـ) بعنوان: "المعتمد في أصول الدين"، وكتاب لإمام الحرمين الجويني الأشعري بعوان: "الشامل في أصول الدين"، وكتاب للإمام الغزالي بعنوان: "الأربعين في  أصول الدين"، وكتاب لأبي المعين النسفي الماتريدي بعنوان: "التمهيد في أصول الدين"، وكتاب للإمام الرازي الأشعري: "الأربعين في أصول الدين".
علم التوحيد
ويسمى علم التوحيد لأنه يدور بصورة جوهرية حول الكلام عن وحدانية الله سبحانه  وتعالى في الذات والصفات وفي الربوبية والألوهية.  وفي شرح العقائد النسفية يسميه التفتازاني علم التوحيد والصفات، حيث يقول: "العلم المتعلق بالأحكام الفرعية – أي العملية – يسمي علم الشرائع والأحكام، وبالأحكام الأصلية أي الاعتقادية يسمى علم التوحيد والصفات ([23]) . وقد جعل الشيخ محمد عبده هذا الاسم عنواناً لكتابه في العقيدة "رسالة التوحيد". وقبل ذلك ألف المتكلم المعروف الماتريدي 333هـ كتاباً في الكلام سمّاه "علم التوحيد".
ويغلب على علم الكلام في القرون من الثاني إلى الرابع الهجري البحث في فهم الإيمان وإدراك مضمون العقيدة وتحديد المعاني الغامضة التي وردت في الكتاب والسنة، وبعد القرن الرابع الهجري بدأت مهمة علم الكلام تتركز في توكيد جانب الدفاع عن الإسلام، ويرجع الفضل في ذلك الاتجاه إلى الحملة التي قام بها الحنابلة ضد علم الكلام إذ قال الإمام أحمد في المناظرة التي جرت بينه وبين ابن أبي دؤاد في حضرة المعتصم قال: " لست أنا صاحب الكلام وإنما مذهبي الحديث " ([24]). وفي هذا ألف ابن قدامة كتابا للرد على المتكلمين بعنوان: "تحريم النظر في كتب أهل الكلام كتاب فيه الرد على ابن عقيل "، إذ كان ابن عقيل أباح علم الكلام وتأويل الآيات المتشابهات.
          وكان الأشعري من أوائل الذين ردّوا على دعوى الحنابلة في ذم علم الكلام والنهى عن الخوض فيه، فلقد تناول هذه المسألة في كتاب له بعنوان "رسالة في استحسان الخوض في علم الكلام".
          ولأهمية هذا العلم ومكانته في الثقافة الإسلامية، قام عدد من العلماء بتأريخ هذا العلم، فكتبوا في هذا  الصدد بعناوين متعددة: "المقالات، و الملل والنحل، والفرق"، ككتاب "المقالات" للكعبي، وكتاب "المقالات" للقاضي عبد الجبار المعتزلي، وكتاب "مقالات الإسلاميين" للأشعري، وكتاب "الفرق بين الفرق" للبغدادي، وكتاب "المقالات والفرق" للقمي الشيعي الإثنى عشري، وكتاب "الفصل في الملل والأهواء والنحل" لابن حزم، وكتاب "الملل والنحل" للشهرستاني، وكتاب "الملل والنحل" لأحمد بن يحيى المرتضى الزيدي.
ويلاحظ صاحب كتاب "تاريخ الفلسفة العربية" أن علم الكلام بالمعنى الذي نفهمه اليوم يشابه علم اللاهوت عند النصارى([25])أي علم العقائد النصرانية، وهو نظام من التفكير الديني يقتصر في معناه، بسبب نشأته وشكله، على النصرانية وحدها. وتاريخ اللاهوت هو تاريخ الفكر النصراني نفسه، الذي حاول باستمرار أن يوفق بين العقائد الدينية ومقتضيات الفلسفة والعلم. وموضوعات علم اللاهوت النصراني الرئيسية هي: الله، الإنسان، العالَم، الخلاص، البعث، الحساب، فهذه الموضوعات تقابل علم الكلام في الإسلام.
          ولا يخفى على أحد أن كل علم من العلوم لا بد له من مبادئ، يقيم عليها قوانينه، وهذه المبادئ قد تكون مسلمات ومصادرات، وقد تكون بديهيات، وقد تكون مبرهنات.  ومن يختلف علم الكلام عن الفلسفة في أن الكلام خاص بدين معين فهو جدل يدور حول أصول دين بعينه، ولكن الفلسفة تبحث عن الحقيقة على وجه العموم.
          ومن حيث المنهج، فيبدأ علم الكلام من مسلمات عقائدية يفترض صحتها أي أن المتكلم يبدأ من قاعدة معترف بها، ثم يتلمس الطرق التي تؤدي إلى إثبات هذه القاعدة، أما الفيلسوف فإنه يبدأ من درجة الصفر أي من قواعد المنطق الأساسية والمقدمات البديهية ويتدرج منها إلى النتائج مستخدما منهجا عقليا صرفا.
          فمثلا يسلم المتكلم بوجود الله ووحدانيته، ولكنه يحاول إقامة الأدلة على وجوده لمواجهة الخصوم والدفاع عن العقيدة، أما الفيلسوف فإنه لا يسلم بأي شيء عند البداية ويحاول البرهنة على وجود الله فهو قبل إقامة الدليل على وجوده لم يكن يسلم بهذا الوجود أصلا([26]).
إن الفلسفة لا تعتمد إلا على التعقل في جميع المسائل المبحوثة فيها، لكن علم الكلام يعتمد على التعقل تارة و على النقل و التعبّد أخرى، و بعبارة أخرى فان علم الكلام أسلوبه التلفيق بين العقل و النقل، أما الفلسفة أسلوبها الاعتماد الكلي على العقل و الأدلة العقلية. فمثلاً يعتمد علم الكلام في مسائل الإمامة على النقل فقط، ولإثبات المعاد يعتمد على التعقل و النقل و التعبد.
إذن، فالفرق بينهما، أن علم الكلام ينطلق من النص القرآني، أما الفيلسوف فيحتج بالبراهين العقلية. لأن الفيلسوف قد لا ينطلق من الدين لكي يثبت ما يريد, فمجاله هو العقل والبراهين العقلية، أما علم الكلام فلا يوجد إلا بدين يندرج تحته.
وأما الغاية التي يرمي إليها المتكلمون الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر فهي إثبات وحدانية الخالق، وأنّه لا شريك له. وأما الفلسفة فتهدف إلى الكشف عن الحقيقة، وتحدد مجال بحثها بمبادئ الوجود وعلله، والكون والإنسان من غير تقيُّد بمسلَّمات معينة.
ومن موضوع علم الكلام وقضاياه يتولد التعريف بعلمائه، وهم: الباحثون المؤمنون الذين يحاولون دائما، من أجل توضيح العقيدة الإسلامية، وتركيزها ودفع الشبهات عنها، إخضاع البرهان المنطقي، والدليل العقلي، لما يعتقدون أنه حقٌّ وصواب، سندهم في ذلك توجيه العقل بالنص، وتأييد النص بالعقل المؤمن، وبذلك فهم ينطلقون من الإيمان إلى المعرفة، ومن المعرفة إلى عمق الإيمان، ثم إلى اليقين. وبهذا فهم يخالفون الفلاسفة غير المؤمنين الذين ينطلقون من لا شيء، ويتمادون في الانطلاق إلى حيث لا نهاية حسب رأيهم، والفلاسفة المؤمنون الذين يعتمدون على العقل اعتمادا كلّيا، ويقدمونه على العقل، وأن كان هذا المنحى استهوى المعتزلة ومنه جاءت مغالاتهم([27]).
ومن هنا نجد اختلافاً بين منهج الفيلسوف ومنهج المتكلم. فالفيلسوف يبدأ من مبادئ المنطق الأساسية والمقدمات البدهية وفقاً لمنهجه، ويتدرج منها إلى النتائج مستخدمًا منهجًا عقليًا صرفاً. في حين أن المتكلم ينطلق من مسلَّمات معينة جاء بها الدين عن الله تعالى وصفاته وصلة الله عز وجل بهذا الكون والإنسان وفقاً لما جاء به الشرع الموحى به.
          وبعد ترجمة ونقل كتب الفلسفة اليونانية في الإلهيات والطبيعيات والأخلاق، مزج المتكلمون موضوعات العقائد الإسلامية، وبعض موضوعات الفلسفة مع استخدام مصطلحات الفلاسفة، ثم خاضوا بعد ذلك في مسائل هي أقرب إلى الفلسفة منها إلى العقائد، كالبحث في الجواهر والأعراض وأحكامها، وطبائع الموجودات([28]). وكان المعتزلة من المتكلمين الذين ولعوا بهذه الاصطلاحات الفلسفية، وقد أشار إلى ذلك الشهرستاني: "طالع شيوخ المعتزلة كتب الفلاسفة حين فسرت أيام المأمون، فخلطوا مناهجها بمناهج الكلام، وأفردوا لأنفسهم علما يسمى بعلم الكلام، إما لأن أظهر مسألة تكلم فيها المتكلمون وتقاتلوا عليها في مسألة علم الكلام، فسمي النوع بإسمها، وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فنا من فنون علمهم بالمنطق ([29]). وأما السبب الذي دفع المتكلمين إلى مزج موضوعات الكلام بموضوعات الفلسفة هو الرد على الفلاسفة فيما خالفوا الشريعة، يقول سعد الدين التفتازاني: "ثم لما نقلت الفلسفة إلى العربية، وخاض فيها الإسلاميون، حاولوا الرد على الفلاسفة  فيما خالفوا الشريعة، فخلطوا بالكلام كثيرا من الفلسفة ليتحققوا مقاصدها، فيتمكنوا من إبطالها، وهلم جرا، إلى أن أدرجوا فيه معظم الطبيعيات والإلهيات، وخاضوا في الرياضيات، حتى كاد لا يتميز – أي علم الكلام – عن الفلسفة لو لا اشتماله على السمعيات([30]).
  
الأصول المنهجية لعلم الكلام


للمتكلمين أصول في تناول قضايا الدين أبرزها ثلاثة أصول: وهي تقديم العقل على النقل مطلقا كما هي منهج المعتزلة والزيدية، أو عند التعارض كما هو واضح عند الأشاعرة و الماتريدة، وأما النصوص الشرعية فهي عندهم أدلة لفظية لا تفيد اليقين([31]).

ومن هنا فإنهم يرون أن العقل هو المنطلق الأساسي الذي يجب أن يصدر عنه إثبات مسائل العقيدة، ومن أهمها إثبات الصانع وأسمائه وصفاته. فاعتمد المتكلمون في الاستدلال على وجود الله تعالى على أساس حدوث هذا العالم، واحتياجه إلى محدث هو الله تعالى، لهذا بذلوا جهدا كبيرا في إثبات حدوث العالم، والرد على من قال بقدمه. وقد سلكوا في ذلك طرقا متعددة، حصرها صاحب المواقف في أربع طرق، فقال: "قد علمت أن العالم إما جوهر أو عرض، وقد يستدل بكل واحد منهما ، إما بإمكانه أو بحدوثه، فهذه وجوه أربعة:

-       الأول: الاستدلال بحدوثه الجواهر: وهو أن العالم حادث، وكل حادث فله محدث.
-       الثاني: بإمكانها: وهو أن العالم ممكن، لأنه مركب وكثير، وكل ممكن فله علة مؤثرة.
-       الثالث: بحدوثه الأعراض، مثل ما نشاهد من انقلاب علقة، ثم مضغة، ثم لحما ودما، إذ لا بد من مؤثر صانع حكيم.
-       الرابع: بإمكان الأعراض : وهو أن الأجسام متماثلة، فاختصاص كل بما له من الصفات جائز ، فلا بد في التخصيص من مخصص له"([32]).
ويشرح المتكلمون طريق الحديث، فيقولون بأن العالم مركب من جواهر فردة وأعراض، وأن الأعراض لا تبقى زمانين متتالين، وإنما يطرأ عليها التغيير والتحول فهي حادثة، والجواهر لا تتعرى عن الأعراض التي هي ملازمة لها، وما دامت الجواهر لا تنفك عن الأعراض فهي حادثة بحدوثها، لأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث([33]). وما دام العالم مكونا من الجواهر والأعراض -وقد ثبت حدوثها- فالعالم حادث، وإذا ثبت أن العالم حادث كان لا بد له من محدث يخرجه من حيز العدم إلى حيز الوجود.
ونلاحظ أنهم يقدمون بكل هذه المقدمات ليدللوا على قضية اعتبرها القرآن الكريم قضية فطرية في الإنسان، ولا يخفى أن الاستدلال بهذه المقدمات قد كلف أصحابه جهدا كبيرا، إذ لزمهم أن يطيلوا البحث في إثبات الجوهر، وفي إثبات الأعراض وأنها حادثة، ثم في إثبات لزومها للجوهر، كل ذلك ليتم لهم إثبات حدوث العالم بكل ما فيه. ولا شك أن هذا المسلك مع ما عليه من مآخذ واعتراضات مسلك شاق يصعب تصوره على المتخصصين فضلا عن الجمهور، وفيه من الطول، والخفاء ، واللبس، والإبهـام مالا يخفى، فلا يصلح لأن يجعل سبيلا لتحصيل أشرف المطالب وهو الإيمان بالله تعالى. ومن هنا انتقد هذه الطرق كثير من المفكرين منهم: ابن رشد (تـ 595هـ) في كتابه "مناهج الأدلة"، والإمام ابن تيمية (تـ 727هـ) في كثير من كتبه وبالأخص كتابه "درء تعارض العقل والنقل"، وتلميذه ابن قيم الجوزية في كتابه "مدارج السالكين" وغيرهم من العلماء الأجلاء.
فأبطل ابن تيمية هذه الطريقة في الاستدلال على وجود الله، وبين أنها سبب في كل ما التزم المتكلمون من متناقضات في الصفات الإلهية وغيرها، وقد التزموا لأجلها نفي صفات الله مطلقا أو بعضها، والقول بخلق القرآن، وإنكار رؤية الله تعالى في الآخرة، وعلوه على عرشه، إلى أمثال ذلك من اللوازم الباطلة التي التزموها ([34]) .
أما الصوفية فطرقهم ليست نظرية – أي غير مركبة من مقدمات ونتائج – وإنما يزعمون أن المعرفة بالله سبحانه وتعالى وبغيره من الموجودات شيء يلقى في النفس عند تجردها من العوارض الشهوانية، وإقبالها بالفكرة على المطلوب، ويحتجون بظواهر من الشرع، مثل قوله تعالى: )وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمَ اللهُ( -البقرة: 283-، وقوله تعالى: )وَالَّذِيْنَ جَاهَدُوْا فِيْنَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِيْنَ( -العنكبوت: 69-. ومن هنا يرى الصوفية -كما يحدثنا الإمام الغزالي- أن التوحيد من علم المكاشفة، وأنه بحر خضم لا ساحل له، وله أربع مراتب: تبدأ باللسان، ثم القلب، ثم الكشف، وأخيرا الفناء، حيث لا يرى الموحد في الوجود إلا الله، ويحذر من الخوض في هذه المرتبة الأخيرة([35]). ولهذا تختلف نظرة الصوفية للتوحيد عن غيرهم، فالعامة يعبرون عن إيمانهم بإثبات الوحدانية لله بنفي الشريك والشبيه، أما المتكلمون والفلاسفة فيتناولون التوحيد من الناحية النظرية في الغالب، بينما الصوفية ينظرون إلى التوحيد على أنه تجربة دينية حية، ومن ثم اتجهوا إلى البحث عن معرفة حقيقته وحكمته. ذلك في رأيهم أن التوحيد كمبدأ روحي، يتصل بحرية الإنسان وتحريره من القيود الحسية، ليترقى في المعراج الروحي أو المقامات، منطلقا إلى الحق المطلق([36]). وقد انتقد ابن رشد هذه الطريقة الصوفية بأنه إن سلِّم وجودها فهي ليست عامة، ولو كانت هي المقصودة بالناس لبطل النظر، ولكان وجودها بالناس عبثا. والقرآن الكريم إنما هو دعاء إلى النظر والاعتبار، والتنبيه على طرق النظر([37]).
وعلى أية حال، فإن العقل والنقل لا يتعارضان، وكذلك بين الأدلة النقلية بعضها بعضا، فلا تعارض بين الكتاب والسنة من ناحية، ولا تعارض بين الأحاديث النبوية فيما بينها من ناحية. يقول الشاطبي: "إنه لا تضاد بين آيات القرآن، ولا بين الأخبار النبوية، ولا بين أحدهما مع آخر، بل الجميع على منهج واحد، ومنتظم إلى معنى واحد"([38]). وقد أصاب ابن تيمية في دحض القول بوقوع التعارض بين العقل والنقل في كتابه الضخم "درء تعارض العقل والنقل"  وتابعه ذلك تلميذه ابن قيم الجوزية، حيث قال: "إن معارضة الوحي بالعقل ميراث عن الشيخ أبي مرة – أي إبليس -، فهو أول من عارض السمع بالعقل وقدمه عليه، فإن الله لما أمره بالسجود لآدم، عارض أمره بقياس عقلي ... ثم تتبعه الفلاسفة والجهمية ومن تأثر بهم من المتكلمين"([39]). وأوضح ابن القيم في موضع آخر أن القائلين بوقوع التعارض بين العقل والنقل، إنما وقعوا في ذلك نتيجة جهلين عظيمين: جهل بالوحي، وجهل بالعقل([40]). 
موقف العلماء من علم الكلام
          لقد سجَّل علماء المسلمين -قديماً وحديثاً- موقفهم تجاه علم الكلام والمتكلمين ، فمنهم من يعارض علم الكلام والمتكلمين فنقدوا مناهجهم وشددوا التنكير عليهم وعدوهم من الخارجين عن منهج القرآن في إثبات العقائد، وقد اتفقت آراؤهم جميعا حول خطورة وجود المتكلمين – والفلاسفة من باب أولى – حيث إنهم كانوا وبالا على حركة التفكير الإسلامي الأصيل النابع من القرآن والسنة، وأن علم الكلام زاد من الأفكار التي أوغلت في تشكيك المسلمين. ومنهم من يناصر علم الكلام والمتكلمين ويذكرون فيها الخيرات والفوائد المتنوعة منها: معرفة أصول الدين معرفة علمية قائمة على أساس من الدليل و البرهان. والقدرة على إثبات قواعد العقائد بالدليل والحجة . والقدرة على إبطال الشبهات التي تثار حول قواعد العقائد.
هذا، وأرى من المناسب أن أذكر أقوال بعض العلماء في علم الكلام وحكم الاشتغال به، ويمكن إرجاع أقوالهم إلى  رأيين، وهما:
الرأي الأول:
ذهب عدد من العلماء إلى القول بجواز الاشتغال بعلم الكلام، كابن عساكر، والبياضي، والغزالي، وغيرهم. واستدلوا بأدلة منها:
إن الأدلة التي استدل بها الأصحاب ليست على العموم، فالمنهي عنه  في الآيات والأحاديث إنما الجدال والمراء الذي لا يتأتى به الفائدة، أما المناظرة لإظهار وجه الصواب من الخطأ فلا يمنع منها.
ويقول الإمام البياضي: " فأما المناظرة فيه على وجه إظهار الحق فلا كراهية فيه، بل هي المأمور به في قوله تعالى: )وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( -النحل: 125-، وفي موضع آخر يقول الغزالي: "وإنما مقصوده – علم الكلام – حفظ عقيدة أهل السنة، وحراستها عن تشويش أهل البدعة، فقد ألقى الله – تعالى – إلى عباده على لسان رسوله عقيدة هي الحق، على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم. كما نطق بمعرفته القرآن ، ألقى الشيطان في وساوس المبتدعة أمورا مخالفة للسنة فلا حا جة بها، وكادوا يشوشون عقيدة الحق على أهلها، فأنشأ الله تعالى طائفة من المتكلمين، وحرك دواعيهم لنصرة السنة بكلام مرتب يكشف عن تلبيسات أهل البدع المحدثة، على خلاف السنة  المأثورة، فمنه نشأ علم الكلام وأهله "([41]).
إن الصحابة لم يشتغلوا بهذا العلم، واكتفوا بما ورد في الكتاب والسنة ، لأن المكابرة، وإثارة الشكوك، وتمويه الحقائق بشبه تلبسها لباس الحق في العقيدة، لم تكن ظاهرة حينذاك، فهي إذا لم تكن  في حاجة إلى هذا العلم، لمقارعتها ومجادلتها بالأدلة العقلية لإثبات العقائد.
وقد أشار إلى هذا الكلام أحد المتكلمين بما ينسب إلى أبي حنيفة رضي  الله عنه:" وأصحاب رسول الله e إنما لم يدخلوا فيه  لأن مثلهم كمثل قوم ليس بحضرتهم من يقاتلهم فلا يتكلفون  السلاح، ونحن قد ابتلينا  بمن يطعن علينا، فلا يسعنا  ألا نعلم من المخطئ منا ومن المصيب ؟ وألا نذب عن أنفسنا ... "([42]).
وهذا الفريق يرى أن علم الكلام هو أعلى مرتبة في العلوم ... إذ موضوعه أعم الأمور وأعلاها، وغايته أشرف الغايات وأجداها  ودلائله يقينية يحكم بها صريح العقل ... وقد تأيدت بالنقل وهي الغاية في الوثائق وهذا هي جهات شرف العلم  لا تعدوها ... فهو إذن أشرف العلوم ([43]). وفي موضع آخر صرح الآمدي أهمية علم الكلام فقال: "وأشرف العلوم إنما هو العلم الملقب بعلم الكلام" ([44]) . وقال الجاحظ: "لولا مكان المتكلمين لهلكت العوام من جميع الأمم"([45]) .
ويرى  الألوسي ضرورة استخدام الحجج العقلية في إثبات  العقيدة كما بينه في تفسيره لقوله تعالى: )وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ( -البقرة: 165–: "وفي الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية، وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله، وربما أشارت إلى شرف علم الهيئة، ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا) بيان لحال المشركين بعد بيان الدلائل الداله  على توحيده"([46]).
الرأي الثاني:
وذهب بعض العلماء إلى تحريم الاشتغال به مطلقا، كابن قتيبة، والخطابي، والأئمة الأربعة وغيرهم. واستدلوا على ذلك بأدلة منها:
وتمسك القائلون بالتحريم بالأدلة من الكتاب والسنة، ومن الآيات الدالة على النهي عن الجدال والمراء في الدين والخوض في المتشابهات من نحو قوله سبحانه وتعالى: )هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ( -ل عمران: 7–، وقوله تعالى: )مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا( –غافر: 5-، وقوله تعالى: )يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ( -النساء: 59-، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في ذاته فتهلكو ...)([47])([48]).
ومنها أن الصحابة لم يشتغلوا بهذا العلم مع أنهم أعرفهم بهذا الدين، وبذلك فهم الصحابة كلَّ ما طُلِبَ منهم الإيمان به تصديق جازم، وتسليم كامل لجميع نصوص العقيدة من آيات منزلة من عند الله أو أحاديث واردة عن رسول الله e، دون أن تثار لديهم أية تساؤلات مريبة حول آيات وأحاديث الصفات من تشبيه، أو تعطيل، أو تأويل .
ومن هنا يتساءل شارحُ الطحاوية ابن أبي العز قائلا: " وكيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة، إنما يتلقاه من قول فلان، وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله، لا يتلقى تفسير كتاب الله من أحاديث الرسول، ولا ينظر فيها، ولا فيما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان، المنقول إلينا عن الثقات النقلة "([49]).
وفي هذا يقول الإمام الشافعي: "كل العلوم سوى القرآن مشغلة ، إلا الحديث وإلا الفقه في الدين،  العلم ما كان فيه قال: حدثنا، وما سوى ذالك وسواس الشياطين"([50]) . ويذم الإمام الشافعي علم الكلام، حتى إنه يجعل الاشتغال بعلم الكلام من أعظم الكبائر، فيقول: " لأن يلقي الله عز وجل العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من  أن يلقاه بشيء من  علم الكلام"، فهو يلي الشرك من حيث عظم الذنوب وأشدها ... والشافعي كان سيء الظن بعلم الكلام وبسوء نتائجه فقال محذرا من الاشتغال به: " لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه فرارهم من الأسد"، وأفتى بأن يُضْرَبَ أصحاب الكلام بالجريد ... ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال : هذا جزاء  من ترك الكتاب والسنة وأخذ الكلام " ([51]) .
وأورد البيهقي في كتابه "مناقب الشافعي" معاقبة الإمام الشافعي لمن اشتغل بعلم الكلام: "حكمي في أهل الكلام أن يُضرَبُوا بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر، ينادي عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأَقْبَلَ على الكلام ([52]) . ويقول ابن تيمية: "إن الشافعي من أعظم الناس ذَمًّا لأهل الكلام، ولأهل التغيير، ونهيا عن ذلك، وجعلا له من البدعة الخارجة عن السنة، ثم إن كثيرا من أصحابه عكسوا الأمر حتى جعلوا الكلام الذي ذمه الشافعي هو السنة وأصول الدين الذي يجب اعتقاده وموالاة أهله، وجعلوا موجب الكتاب والسنة الذي مدحه الشافعي هو البدعة التي يعاقب أهلها"([53]). وقد روى الحافظ ابن الجوزي في كتابه "مناقب الإمام أحمد بن حنبل" بإسناده إلى الإمام أحمد عنه قال: "لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا إلا ما كان في كتابه الله أو حديث رسول الله e أو عن أصحابه، فأما غير ذلك فإن الكلام فيه غير محمود([54]) . وقال الأوزاعي: "إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل ومنعهم العمل"([55]).
وفي العصر المعاصر جاء سيد قطب مُبَيِّنًا خطأ منهج المتكلمين فقال: "اشتغل الناس بالفلسفة الإغريقية وبالمباحث اللاهوتية التي تَجَمَّعَتْ حول المسيحية والتي تُرْجِمَتْ إلى اللغة العربية، ونشأ عن هذا الاشتغال الذي لا يخلو من طابع الترف العقلي، انحرافات واتجاهات غربية على التصور الإسلامي الأصيل، حتى وجد بين المفكرين المسلمين مَنْ فُتِنَ بالفلسفة الإغريقية، فحاولوا إنشاء علم الكلام على نسق المباحث اللاهوتية مَبْنِيَّةً على منطق أرسطو، ولما كانت هناك جفوة أصلية بين منهج الفلسفة ومنهج العقيدة، فقد نشأ من هذه المحاولات تخليط كثير، شاب صفاء التصور الإسلامي، وصغر مساحته وأصابه بالسطحية. ذلك مع التعقيد والجفاف والتخليط، مما جعل مباحث علم الكلام غريبة غربة كاملة على الإسلام "([56]).



هذا موجز الأقوال والأدلة التي تمسك بها القائلون بتحريم الاشتغال بعلم الكلام.
والحقيقة –كما يرى الإمام الغزالي– أن علم الكلام تارة يجر منفعة وتارة يجر مفسدة، فينتفع به حين يكون استعماله سليما، وهو عند دفع شبهات خصوم الدين، وأما عند إثارة الشبهات فمضرة لا جدوى فيه، ومما يدل على  ذلك قوله: " إن فيه – علم الكلام – منفعة وفيه مضرة فهو باعتبار منفعته في وقت الانتفاع حلال أو مندوب إليه أو واجب كما يقتضيه الحال وهو باعتبار مضرته في وقت الاستضرار ومحله حرام، أما مضرته فإثارة الشبهات وتحريك العقائد، وإزالتها عن الجزم "([57]).
          والجدير بالذكر هنا موقف الإمام الشوكاني المتميز من علم الكلام، حيث يرى أنه من المستحسن التعمق في القرآن والسنة قبل الاشتغال بعلم الكلام، ونصح طالب العلم في كتابه (أدب الطلب) بدراسة هذا العلم بعد إتقانه لعلم أصول الفقه، والتفسير، والحديث، وقال: "فإنه إذا فعل كل هذا عرف الاعتقادات كما ينبغي، وأنصف كل فرقة بالترجيح أو التجريح على بصيرة، وقابل كل قول بالقول أو الرد على حقيقة ... على أنه يتعلق بذلك فائدة وزيادة بصيرة في علوم أخرى، كعلم التفسير، وعلم تفسير الحديث، فإذا بلغت إلى ذلك علمت ما في العلم بهذا الفن من الفائدة"([58]). ولكن بعد تجربته مع علم الكلام يقرر أن هذا العلم في النهاية يؤدي إلى الحيرة، وقال: "واعلم أني عند الاشتغال بعلم الكلام، وممارسة تلك المذاهب والنحل، لم أزدد بها إلا حيرة، ولا استفدت منها إلا العلم بأن تلك المقالات خزعبلات، فقلت إذ ذاك مشيرا إلى ما استفدته من هذا العلم:
          وغاية ما حصلته من مباحثي           ومن نظري من بعد طول التدبر
        هو الوقف ما بين الطريقين حيرة                فما علم من لم يلق غير التحير
        على أنني قد خضت منه غماره          وما قنعت نفسي بدون التبحر"([59]) .
          وعلى أية حال –من وجهة نظرنا– أن علم الكلام هو العلم الذي يحتل مكانة هامة بين العلوم الإسلامية، بوصفه أحد العلوم التي قامتْ أساسا للدفاع عن العقيدة الإسلامية في مواجهة الشبهات التي أثارتها الطوائف والأديان غير الإسلامية. حتى لا يمنعنا القول بأن علم الكلام على مدى تاريخه الطويل يتسع أحيانا ليفسح مقدارا أكبر من العناية والاهتمام للرد على المخالفين للإسلام وعقيدته. فغايتهم من تأويل القرآن هو الدفاع عن العقيدة الإسلامية، وتنـزيه المولى عز وجل عن كل  نقص وعن كل تشبيه، ووصفه بالكمال المطلق. بالإضافة إلى ما ذكره ابن تيمية أن: "السلف لم يذموا جنس الكلام، فإن كل آدمي يتكلم، ولا ذموا الاستدلال والنظر والجدل الذي أمر الله به رسوله، والاستدلال بما بينه الله ورسوله، بل ولا ذموا كلاما هو حق، بل ذموا الكلام بالباطل، وهو المخالف للكتاب والسنة، وهو المخالف للعقل أيضا، وهو الباطل، فالكلام الذي ذمه السلف هو الكلام الباطل، وهو المخالف للشرع والعقل، ولك كثيرا من الناس خفى عليه بطلان هذا الكلام"([60]).
وفي موضع آخر يقول ابن تيمية: "والسلف إذ ذموا أهل الكلام، وقالوا: علماء الكلام زنادقة وما ارتدى أحد بالكلام فأفلح، فلم يريدوا به مطلق الكلام، وإنما هو حقيقة عرفية فيمن يتكلم في الدين بغير طريقة المسلمين"([61]) . كما أنه أشار إلى الفرق بين منهج المتقدمين من أهل الكلام ومتأخريهم، بأن المتقدمين يخلطون بأصول من الكتاب والسنة بخلاف أكثر متأخريهم، فإنهم لم يذكروا إلا الأصول المبتدعة، وأعرضوا عن الكتاب والسنة وجعلوهما إما فرعين أو آمنوا بهما مجملا أو خرج بهم الأمر إلى نوع من الزندقة([62]) .
          والجدير بالذكر هنا أنه قد رجع العديد من أئمة المتكلمين إلى عقيدة السلف في إثبات الصفات وغير ذلك، ونهوا عما أحدثوه من قبل من كلام في دقائق العقيدة، وأعلنوا التوبة منه والرجوع عنه.
          وفي هذا يقول الرازي في وصيته التي وردت في كتاب (عيون الأنباء): "ولقد اخترت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله تعالى ، ويمتنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات. فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده، ووحدته وبراءته عن الشركاء في القدم والأزلية، والتدبير والفعالية ، فذاك هو الذي أقول به وألقى الله به ... والذي لم يكن كذلك أقول ديني متابعة محمد سيّد المرسلين"([63]) .  وقال في كتابه أقسام اللذات الذي صفه في آخر عمره:
نهاية إقدام العقول عقال                      وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا              وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا              سوى أنْ جمعنا فيه قيلَ وقالوا
فكم قد رأينا من رجالٍ ودولة                 فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علا شرفاتها                 رجال فزالوا والجبال جبال([64]).
وفي موضع آخر يقول الرازي: "لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً " وعاد إلى الطريقة القرآنية، وضرب مثلاً بمنهج القرآن في الصفات: " ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ، أقرأ في الإثبات: )اَلرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَي( -طه: 5-، )إِلَيْهِ يَصْعُدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ( -فاطر: 10- . وأقرأ في النفي: )لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءُ( -الشورى: 11-، )وَلاَ يُحِيْطُوْنَ بِهِ عِلْماً( -طه: 110 -، ثم قال: "من جرَّب مثلَ تجربتي عَرَفَ مثلَ معرفَتِي" ([65]).
ومن أقوال إمام الحرمين الجويني: "يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلتُ به"، " لقد جربت أهل الإسلام وعلومهم، وركبْتُ البحر الأعظم، وغُصْتُ في الذي نهوا عنه، كل ذلك في طلب الحق، والهرب من التقليد، والآن قد رجعْتُ عن الكل إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره، فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص، فويل لابن الجويني"([66]). "والذي نرتضيه رأيا وندين الله به عقلا إتباع سلف الأمة، فالأولى الإتباع، وترك الابتداع([67]). وقد ذكر ابن تيمية توبة الجويني: "وها أنا أموت على عقيدة أمي، وروي على عقيدة عجائز نيسابور"ثم علق ابن تيمية على ذلك القول: "ولهذا يقول مثل هؤلاء: عليكم بدين العجائز، فإن تلك العقيدة الفطرية التي للعجائز، خير من هذه الأباطيل، التي هي من شِعَبِ الكُفْرِ والنفاق، وهم يجعلونها من باب التحقيق والتدقيق"([68]). أما أبو حامد الغزالي، فإنه لم يجد له مغنى في – الكلام –، وكان ذلك مما بعثه على الرجوع في آخر عمره إلى ما كان يرغب عنه، ويرى أنه لا شيء فيه، فأقبل على حفظ القرآن، وسماع الصحيحين، فيقال أنه مات وصحيح البخاري على صدره، ولكنه توفي قبل أن يظهر أثر ذلك في كتبه. وقد ذكر الغزالي الكلام والخلاف فيه: "فاسمع هذا ممن خبر الكلام، ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة، والتغلغل فيه إلى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك ... وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود"([69]). وفي موضع آخر قال: "وإذا تركنا المداهنة لصرحنا بأن الخوض في هذا العلم حرام، لكثرة الآفة فيه"([70]).
          ويقول متكلم آخر أبو الوفا ابن عقيل تـ (513هـ) لبعض أصحابه: "أنا أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض، فإن رأيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى، فبئس ما رأيتَ ...، وقد أفضى الكلام بأهله إلى الشكوك، وبعضهم إلى الإلحاد، تشم روائحه من فلتات كلامهم ... ولقد بالغت في الأصول طول عمري، ثم رجعت القهقري إلى مذهب المكتب" ([71]) .
          وأما عن مؤسس المذهب الأشعري (أبو الحسن الأشعري)، فالحقيقة أنه رجع بنفسه عن منهج الكلام وعن اعتقادات الأشاعرة، وأقر بانتسابه إلى مذهب الحق الذي يمثله إمام أهل السنة أحمد بن حنبل في عصره وصنف كتابه الأخير على هذا المذهب وهو "الإبانة عن أصول الديانة".
وهذا الشهرستاني يضرب على الوتر نفسه، ويقرر أنّه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين بعد طول بحث إلا الحيرة والندم حيث يقول :
لعمري لقد طُفْتُ المعاهدَ كلَّها       وسيَّرْتُ طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر          على ذقن أو قارعاً سن نادم
ثم قال : "عليكم بدين العجائز ، فإنه أسني الجوائز"([72]).
          فكل هؤلاء الأئمة هم مِنْ أجلِّ أئمة المتكلمين من الأشاعرة، قد ذكروا طريقتهم السابقة، ولو أنها كانت الحق لما زيفوها، وأبانوا عوارها ونقصها، وجعلوا في خاتمة عمرهم يتبرؤون منها … فياليت المحْدَثين من المنتسبين لفكرهم والمقلدين لهم يعتبرون بهذه الحال.
          أما عن متكلمي المعتزلة، فإنه لم يعرف عن أحدهم أنه تاب وأناب، وما هذا إلا لإيغالهم في الباطل، وعدم توجه نياتهم لطلب الحق أصلاً، وأنهم رؤوس البدعة، والمنشؤون لها.
وقال ابن أبي الحديد – وهو من شعراء الشيعة – توفي سنة ( 655هـ) :
سافر فيك العقول فما                  ربحت إلا عنا السفر
رجعت حسري وما وفقت                     لا على عين ولا أثر
     وقال أيضا :
طَلَبْتُ جاهداً خمسين عاما                         فلم أحصل على برد اليقين
فهل بعد الممات بك اتصال            فأعلم غامض السر المصون([73]).
          ويحسم موقفنا من علم الكلام الشروط التي وضعها الإمام القرطبي -رحمه الله-، حيث إنه وضع شروطا لجواز الاشتغال بعلم الكلام، منها: أن يكون مستهدفا للدفاع عن العقيدة الإسلامية، وأن يكون الجدال والمناقشة فيه لإظهار الحق، وأن لا يؤدي تعلمه إلى تقبيح من أخذ بالأثر([74]). وأما أقوال المعارضين بصفة عامة وموقفهم من علم الكلام، يمكننا القول إنهم يغفلون دوافع نشأة علم الكلام وتطور الفكر الإسلامي، التي أدت إلى نشأته من إثبات العقيدة الإسلامية والدفاع عنها وتوضيحها بأدلة عقلية، وأما استخدامهم للمصطلحات الكلامية، فإنها من ضروريات العلم، وذلك من أجل فهم العلم وتفسيره، لأن كل علم له مصطلحاته الخاصة كعلم أصول الفقه والتفسير والحديث وغير ذلك. بالإضافة إلى أنه لا يجوز المصارحة بعلم الكلام إلى عوام الناس.


([1])  الغزالي، المنقذ من الضلال، ص 13.
([2])  لمزيد من التفصيل راجع كتاب "تبسيط العقائد الإسلامية" للشيخ حسن أيوب، صفحة: 72 وما بعدها.
([3])  انظر: د. أبو الوفا التفتازاني، علم الكلام وبعض مشكلاته، ص 6-7، مكتبة القاهرة الحديثة، بدون تاريخ.
([4]) هو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار بن أحمد الإيجي، ولد بإيج من نواحي شيراز بعد ثمانين وست مائة، ومات سنة 756هـ، انظر: الشوكاني، 1/326. ابن احجر، الدرر الكامنة 3/110.
([5]) الإيجي، كتاب المواقف، ص 31 .
([6]) هو أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الفارابي، وهو فارسي الأصل، أول الفلاسفة الكبار في الإسلام، يعرف بالمعلم الثاني وأول من جمل المنطق اليوناني تاما منظما إلى العرب، ولد في بلدة وسيج قرب فاران، على نهر سيحون من بلاد الترك سنة260هـ، وتوفى في دمشق سنة 339هـ.
([7] ) الفارابي، إحصاء العلوم، ص 131، تحقيق: د. عثمان أمين.
([8]) هو عبد الرحمن بن  محمد بن محمد بن محمد بن الحسن ابن خلدون الإشبيلي، ولي الدين أبو زيد، أديب مؤرخ اجتماعي، توفى سنة 808هـ من كتبه، المقدمة، العبر، طبيعة العمران، انظر: نفح الطيب 1/147، أبجد العلوم للقنوى 1/147، نيل الإبتهاج، ص 169.
([9] ابن خلدون، المقدمة، ص 358.
([10]) هو محمد بن أحمد الطوسي الغزالي، زين الدين حجة الإسلام، أبو حامد متكلم صوفي فقيه أصولي، توفى سنة 505هـ، من كتبه: إحياء علوم الدين، المستصفى في أصول الفقه، انظر: ابن خلكان، وفيات الأعيان، 4/216-219. الذهبي، سير أعلام النبلاء، 9/322.
([11])  الغزالي، المنقذ من الضلال، ص 13.
([12])  سعد الدين التفتازاني، شرح المقاصد، 1/177.
([13]) مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة، ص 263 .
([14])  ابن خلدون، المقدمة، ص 565 .
([15])  انظر: التفتازاني، شرح العقائد النسفية، ص 11 من الكتاب .
([16])  ابن خلكان ، ط1/1948م، وفيات الأعيان ، ص 687.
([17]) د. مصطفى حلمي، 1984م، قواعد المنهج السلفي، ص 40، 46، دار الدعوة بالاسكندرية، مصر.
([18]) صحيح البخاري 9/24 كتاب التوحيد (وكان عرشه على الماء) وكتاب بدء الخلق. وجاء في تلخيص مسلم للقرطبي 1/90 للفظ آخر باب الإيمان.
([19])  مسند ابن حنبل، 2/387.
([20]) الجاحظ، البيان والتبيان، 1/139.
([21]) محمد أبو زهرة، أبو حنيفة ، ص 171.
([22]) انظ : د. أبو اليزيد أبو زيد العجمي ، الفقهاء وبحوث العقيدة الإسلامية، ص 91 وما بعدها ، دار الهداية ، القاهرة، 1985م .
([23])سعد الدين التفتازاني، شرح العقائد النسفية، ص 100.
([24]) أحمد بن يحيى ابن المرتضى ، طبقات المعتزلة ، ص 125.
([25]) حنا الفاخوري وخليل الجر، تاريخ الفلسفة العربية، 1/170.
وأورد القس جيمس أَنِس تعريف علم اللاهوت قائلا بأنه: "علمٌ يبحث عن الله وصفاته وشرائعه وأعمال عنايته، والتعاليم التي يجب أن نعتقدها، والأعمال التي يجب أن نقوم بها. وهو قسمان: وَحْييٌّ، وطبيعي. ولعلم اللاهوت أربعة أقسام: 
(1) الثيولوجيا: ويبحث عن الله وصفاته. ويشمل كل ما يعلّمه الكتاب في وجود الله، وصفاته، والتثليث، وعلاقة الله بالعالم في قضائه وأعمال الخليقة وعنايته بها.
(2) الأنثروبولوجيا: ويبحث في الإنسان. ويشمل كل ما يعلّمه الكتاب عن أصل الإنسان، وطبيعته، وحالته قبل السقوط، وعن سقوطه، وماهية الخطية وما أحدثته خطية آدم في نفسه وفي نسله.
(3) السوتيريولوجيا: ويبحث في الخلاص. ويشمل كل ما يعلّمه الكتاب عن شروط خلاص الإنسان من تجسُّد الفادي، وأنه إله وإنسان معاً، وعمله، وعمل الروح القدس في تخصيص الفداء للمؤمنين وتجديدهم وتبريرهم وتقديسهم، ووسائط النعمة.
(4) الإسخاتولوجيا: ويبحث في الآخرة، ويشمل كل ما يعلّمه الكتاب عن حالة النفس بعد الموت، وفي القيامة، ومجيء المسيح ثانيةً للدينونة العامة، ونهاية العالم، والسماء وجهنم.
وقد زاد بعضهم قسماً خامساً وسمّوه «الإكليزيولوجيا» وهو يبحث في الكنيسة، ويشمل تعليم الكتاب في ماهية الكنيسة وصفاتها وحقوقها ونظامها.
وقد بنينا كتابنا هذا على مبادئ ثابتة، نذكر منها: 
(1) إن الكتاب المقدس موحى به من الله، وإنه الدستور الوحيد المعصوم للإيمان والعمل.
(2) إن محور علم اللاهوت هو المسيح وعمله.
(3) إن الخلاص كما يقدِّمه الإنجيل هو من الله، بنعمة مجانية وبوسائط إلهية يستخدم الله البشر لإجرائها، غير أن فعلها العظيم هو بواسطة الروح القدس الذي ينير القلب ويجدّده ويقدسه.
(4) غاية المعرفة الدينية هي إصلاح الجنس البشري وبنيانه في الأخلاق والقداسة والسيرة اللائقة والخدمة الخيرية للعالم، وكل ذلك لمجد الله. راجع: القس جميس أنس، علم اللاهوت النظامي، ص 1 – 52، راجعه ونقَّحه وأضاف إليه: القس منيس عبد النور .
نقلا عن http://www.answering-islam.org/Arabic/Books/Theology/index.html

([26]) انظر: د. محمد علي أبو ريان، 1973م، تاريخ الفكر الفلسفي في الإسلام، ص 134.
([27]) انظر: إبراهيم بن حسن بن سالم، 1993م، قضية التأويل في القرآن -بين الغلاة والمعتدلين-، 2/140.
([28])  انظر: د. أبو الوفاء العنيمي التفتازاني، علم الكلام وبعض مشكلاته، ص 23 - 24 .
([29])  الشهرستاني، الملل والنحل، 1/32 – 33 .
([30])  سعد الدين التفتازاني، شرح العقائد النسفية، ص 17  .
([31]) وسنتحدث بالتفصيل عن مناهج المتكلمين في الفصل الأول، وذلك حينما نتحدث عن كل المذاهب العقائدية.
([32]) الإيجي، كتاب المواقف، ص 266، الموقف الخامس، طبعة عالم الكتب، بيروت، لبنان .
([33]) انظر: الباقلاني، الإنصاف، ص 27 – 28، طبعة عالم الكتب، 1407هـ، بيروت، لبنان، تحقيق: عماد الدين أحمد حيدر. الإسفراييني، التبصير في الدين، ص 153-154، طبعة عالم الكتب، 1403هـ، تحقي : كمال يوسف حوت.
([34])  انظر: ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، 1/89، 176، 225، طبعة درا الكتب العلمية، 1405هـ . وكتاب آخر لابن تيمية، النبوات، ص 60 وما بعدها، طبعة دار الكتب العلمية، 1402هـ .
([35]) الغزالي، إحياء علوم الدين، 4/240-242.
([36]) راجع: د. كرم أمين أبو كرم، 1997، العبادة عند محي الدين بن عربي، دار الأمين، القاهرة .
([37]) انظر: ابن رشد، مناهج الأدلة، ص 150.
([38])  الشاطبي، الاعتصام، 2/130 .
([39]) ابن قيم الجوزية، الصواعق المرسلة، 3/998.
([40])  ابن قيم الجوزية، الصواعق المرسلة، 4/1207.
([41])  الغزالي، المنقذ من الضلال، ص 13.
([42])  البياضي، إشارات ، ص 22.
([43])  الإيجي، كتاب المواقف، ص 41.
([44])  الآمدي، غاية المرام، ص 3.
([45])  الجاحظ، الحيوان ، 4/206، مطبعة الحلبي، القاهرة، ط2/بدون تاريخ ، تحقيق : عبد السلام هارون.
([46]) الألوسي، تفسير روح المعاني، 2/33 .
([47])  أخرحه الهيثمي في مجمع الزوائد (1/81)، رواه الطبراني في الأوسط، وفيه وازع بن نافع وهو متروك.
([48])  انظر: البياضي، الإشارات، ص 20.
([49]) ابن أبي العز،/1997م، شرح العقيدة الطحاوي، 1/221، مؤسسة الرسالة، بيروت، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي وشعيب الأرناؤوط.
([50])  انظر: ابن أبي العز، شرح العقيدة الطحاوية، 1/18. طبقات السبكي (1/297). السيوطي، صون المنطق والكلام، ص 147.
([51] ) الغزالي، إحياء علوم الدين، 1/95.
([52])  انظر: البيهي، 1391هـ، مناقب الشافعي، 1/462.
([53])  ابن تيمية، الاستقامة، 1/15.
([54])  انظر: ابن الجوزي، 1962م، مناقب الإمام أحمد بن حنبل، ص 70 – 156.
([55]) اللالكائي، شرح أصول اعتقاد أهل السنة، 1/145.
([56]) سيد قطب، ط7/1980م، خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، ص 11- 13 باختصار، دار الشروق، مصر.
([57]) الغزالي،  قواعد العقائد، ص 99.
([58]) الشوكاني، أدب الطلب ومنتهى الأرب، مكتبة الساعي، الرياض، تحقيق : محمد عثمان الخشت، بدون تاريخ.
([59]) الشوكاني، التحف في مذاهب السلف، ص 10، ضمن الرسائل السلفية، دار الكتب العلمية، 1348هـ.
([60]) ابن تيمية، الفرقان بين الحق والباطل، ص 110، ضمن الرسائل، طبعة محمد علي صبيح ، القاهرة.
([61]) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 12/460 -461.
([62]) راجع: ابن تيمية، درء تعارض العقل والنقل، 1/44 -46. مجموع الفتاوى له، 10/366 – 367.
([63])  عن القائد في تصحيح العقائد، ص 74.
([64]الرازي، كتاب اعتقادات فرق المسلمين، ص 23.
([65]ابن تيمية، الفتوى الحموية الكبر ، ص 7.
([66]) ابن الجوزي، تلبيس أبليس،  ص 85.
([67]) الجويني، ط1/1398هـ، العقيدة النظامية، ص 32 – 33، مطبعة دار الشباب، مصر، تحقيق : أحمد حجازي.
([68]) ابن تيمية، ط1/1392هـ، بيان تلبيس الجهمية، 1/122، مطبعة الحكومة السعودية بمكة المكرمة، تحقيق : محمد بن عبد الرحمن بن قاسم .
([69]) الغزالي، إحياء علوم الدين، 1/97.
([70]) الغزالي، ط1/1381هـ، فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ص 90، مطبعة الحلبي.
([71]) ابن الجوزي، تلبيس إبليس، ص 84 -85. عبد الرحمن بن شهاب الحنبلي، ذيل طبقات الحنابلة، 3/152، دار المعرفة، بيروت – لبنان، بدون تاريخ .
([72]الشهرستاني، نهاية الإقدام في علم الكلام، ص  3 -  4.
([73]) ابن الوزير اليمني ، الروض الباسم ، 2/167.
([74]) لمزيد من التفصيل عن رأي الإمام القرطبي في دراسة علم الكلام، فراجع رسالتنا للماجستير بعنوان "مسائل الاعتقاد عند الإمام القرطبي"، مؤسسة العليا، القاهرة، 2006م. 

0 komentar:

Post a Comment