Wednesday, July 14, 2010

CONTEMPORARY RELIGIOUS DISCOURSE (3) في ضوء الخطاب الديني المعاصر

القسم الثالث
نظرية الهِرمِنِيُوطِيقِية الغربية
Teory of Hermeneutic
الدكتور/ كمال الدين نور الدين مرجوني
الهرمنيوطيقا مصطلح قديم بدأ استعماله في دوائر الدراسات اللاهوتية ليشير إلى مجموعة القواعد والمعايير التي يجب أن يتبعها المفسر لفهم النص الديني الكتاب المقدس. يشير المصطلح إلى نظرية التفسير ويعود قدم المصطلح للدلالة على هذا المعنى إلى عام 1654م وما زال مستمرًا حتى اليوم خاصة في الأوساط البروتستانتية. وقد اتسع مفهوم المصطلح في تطبيقاته الحديثة، وانتقل من مجال علم اللاهوت إلى دوائر أكثر اتسـاعًا تشمل كافة العلوم الإنسانية؛ كالتاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجى وفلسفة الجمال والنقد الأدبي والفلوكلور.
يقول الدكتور عبدالوهاب المسيري عن الهرمنيوطيقا: "هي مشتقة من الكلمة اليونانية (Hermeneuin) بمعني يُفسِّر أو يوضِّح -من علم اللاهوت- حيث كان يقصد بها ذلك الجزء من الدراسات اللاهوتية المعني بتأويل النصوص الدينية بطريقة خيالية ورمزية تبعد عن المعنى الحرفي المباشر، وتحاول اكتشاف المعاني الحقيقية والخفية وراء النصوص المقدسة-التي هي هنا الكتاب المقدس-" والقضية الأساسية التي تتناولها الهرمنيوطيقا بالدرس هي معضلة تفسير النص بشكل عام، سواء كان هذا النص نصًا تاريخيًا، أم نصًا دينيًا من علماء الهرمنيوطيقا المفكر الألمانى شلير ماخر (1843م) و ويلهلم ديلش (1833 – 1911م) و مارتن هيدجر و جادامر.
وأوضح "بول ريكور" الفيلسوف الفرنسي معنى الهرمنيوطيقيا:"فن كشف الخطاب في الأثر الأدبي" ( )، وقد عوّل بور ريكور كثيرا على "التفسير الرمزي"، وهو ما سيعتبر أساسا تقوم عليه الهرمنيوطيقا ، إذ يعتبر ريكور "الرمز" وسيطا شفافا ينم عما وراءه من معنى ، ومعنى ذلك أن يقول القائل شيئا وهو يعني شيئا آخر في آن واحد، وبغير أن تتعطل الدلالة الأولى وهو ما يسمى "بالوظيفة الأليغورية" للغة بالمعنى الحرفي للكلمة. وهذه الطريقة لجأ إليها "بولتمان" في تحطيمه للأسطورة الدينية في العقد القديم، والكشف عن المعاني العقلية التي تكشف عنها هذه الأساطير، وهي الطريقة نفسها التي يحاول الخطاب العلماني عموما وأركون خصوصا أن يطبقها على النص القرآني، والأساطير المراد تحطيمها هي كل مالا يقبله العقل العلماني من أمور الغيب ( ) .
كما تعني تقليديا " فن تأويل النصوص المقدسة الإلهية أو النصوص الدنيوية البشرية، وهي كذلك مساوية للتفسير أو للفلولوجيا بما هي تفسير حرفي أو نحوي وصرفي لغوي لبيان معاني الألفاظ والجمل والنصوص، وهذا ما يعرف بالتفسير اللفظي" ( ) .
وأما المبادئ الأساسية للقراءة الهرمنيوطيقية الغربية – كما أوردها الدكتور أحمد الطعان – فهي على النحو الآتي ( ) :
- أولا: انعدام البراءة في القراءة (وكل قراءة هي إساءة قراءة).
إنها في الحقيقة فكرة ترتبط بموقف فلسفي يسيطر على العقل الغربي وهو اليأس من تحصيل اليقين، مما جعل المعرفة كلها ذات طبيعة افتراضية، فهي دائما يانتظار التعديل والتغيير، وانهارت مقولة المعرفة الموضوعية أو المعرفة اليقينية ، بهذ الشكل تصبح القراءة عملية تغيير للحقيقة، وليست نقلا أو تفسيرا لها. ويقول (ديمان) صاحب فكرة إساءة القراءة: "إنني أعني بإساءة القراءة الجيدة نص ينتج نصا آخر يمكن اعتباره هو الآخر مثيرا للإهتمام، نصا يولد نصوصا أخرى" ( ) .
فهذا معناه تأويل على التأويل الذي يقوم على البحث عن الباطن، ومن الباطن إلى الباطني، أي أن النص يتطور إلى عدة نصوص أخرى كما فعل ذلك المذهب الباطني ( ). وقد استخدم (فرويد) في التعامل مع النصوص الدينية على البحث عن الباطن أولا، كسلاح تشكيكي ضد الوعي المزيف، وحل رموز النفس ( ) .
- ثانيا: موت المؤلف.
لكي يصل القارئ إلى معشوقه "النص" لابد من موت المؤلف، وعندئذ تنقطع الصلة بين النص وقائله، فتصبح اللغة هي التي تتكلم وليس المؤلف، فيقتل (رولان بارت) المؤلف ليستأثر هو بحب معشوقه النص، وينتصر القارئ على المؤلف، ويخلو الجو للعاشق لكي يمارس حبه مع محبوبه ( ). ومن هنا فإن موت الكاتب هو الثمن الذي تتطلبه ولادة القارئ" ( ) .
- ثالثا: خرافة القصدية.
إن المقاصد التي يريدها العلمانيون هنا ليست مقاصد الله عز وجل قائل النص ومنزله، وليس مقاصد النص منطوقا أو مفهوما، وإنما المقاصد هنا هي مقاصد القارئ للنص ، فهم كقراء يسهمون في إنتاج دلالة النص. فيصبج النص خاضعا لصنع القارئ ، يقرأ بطريقة تجعل المؤلف غائبا على كافة المستويات( ). وبذلك يصبح القرّاء أحرارا في قراءة النص لهم أن يفعلوا به ما يشاؤون، ولهم أن يتجاهلوا قصد المؤلف، وأن يقوّلوا النّص ما يريدون. وإن الناسخ أو القارئ حين يخلف المؤلف، لا يجد في نفسه انفعالات ولا بشائر ولا مشاعر ولا انطباعات ، ولكنه يجد هذا القاموس الهائل فينهل منه كتابة لا تعرف أي توقف ( ) . أما نية المؤلف فلا يجب استحضارها إطلاقا ، والبحث عنها وهم ( ) . هكذا تتحول علاقة النص بصاحبه إلى علاقة ناسخ ومنسوخ أي أن دور المؤلف كان مجرد أن نسخ النص بيده أو قاله بلسانه ( ) .
- رابعا : لا نهائية المعنى.
إن النص أصبح إشارات ودوال حرة لا تقيدها حدود المعاني المعجمية ، وأصبح للنص فعالية قرائية إبداعية تعتمد على الطاقة التخييلية للإشارة في تلاقي بواعثها مع بواعث ذهي المتلقي، وأصبح القارئ المدرب هو صانع النص ، والقراءة تغدو عملا إبداعيا كإنشاء النص، لأن النص جنين يحبث عن أب يتبناه ، وما ذلك الأب إلا القارئ المدرب ( ). وإن كلمة دون توقف تعني أنه ليس هناك معنى للنص، لأن المعنى لا يستقر، وحضور المعنى غير قابل للتحقيق أبدا ، لأنه يكون قد بات في حالة إرجاء دائم كما يقول دريدا ( ). وفي هذا يقول هارتمان : "إن من حق القارئ العنيد أن يجد في النص ما يصبو إليه" ( ) .
- خامسا : التناص.
التناص نقيض للنص ، وهو علاقة النص أو الكلمة بالقارئ وبالنصوص الأخرى، وهذا يعني أن كل نص صدى لنص آخر ( ). لأن كل كلمة في النص سبق استخدامها وهكذا إلى ما لانهاية ( ) . إذن فإن النص على ليس ذاتا مستقلة أو مادة موحدة، ولكنه سلسلة من العلاقات مع نصوص أخرى، ومقتطفات أخرى، يحتوي على كم هائل من الأفكار والمعتقدات والإرجاعات التي لا تتآلف ، تشكلت من نصوص سابقة، وتسهم في تشكيل نصوص لاحقة ( ) .
- سادسا : الفراغات.
يُعدّ (ميشال) أو من اخترع هذه النظرية، فقال: "إن وراء كل بداية مظهرية يمكن دائما وباستمرار أصل خفي، بلغ من الخفاء والعمق حدا يصعب معه علينا تملكه وإكام القبضة عليه، حتى أننا لننساق رغما عنا عبر وهم سذاجة التسلسل التاريخي والزماني للأحداث نحو نقطة تتباعد بشكل محدود نحو نقطة لم يعرف لها التاريخ مكانا ولا زمنا، أي نقطة لن تكون سوى فراغ ... إن كل خطاب ظاهر ينطلق سرا وخفية من شيء ما تم قوله، وهذا "الما سبق قوله" ليس مجرد جملة تم التلفظ بها، أو مجرد نص سيقت كتابته ، بل هو شيء "لم يُقل أبدا"، إنه خطاب بلا نص، وصوت هامس همس النسمة، ثم التلفظ به في هذا الصمت شبه المطبق ... فالخطاب الظاهر ليس في نهاية المطاف سوى الحضور المانع لما لا يقوله، وهذا "الما لا يقال" هو باطن يُلَغَّم ومن الداخل كل ما يقال" ( ) . ويعني بهذا القول أن للقارئ حر مطلق في تقويل النص وإنطاقه، فيقول ما يريده من القول.
- سابعا: الرمزية.
هي إشارات رمزية إلى معانٍ أخرى بعيدة عن حرفية النص، وقد برز هذا الاتجاه في أوروبا في عصر التنوير وما سبقه وتبناه رموز هذا العصر من أمثال سبينوزا (1632 ـ 1677) الذي قام بتأويل أهم العقائد المسيحية الكاثوليكية على أساس رمزي، فقيامة المسيح بعد الموت لم تكن –بنظره- جسدية وإنما رمزية أو روحية، وتجسد الله في المسيح هو على سبيل الرمز أيضاً، وقل الأمر عينه بشأن القربان المقدس الذي يفترض أن جسم المسيح ودمه موجودان في الخبز والخمر الذي يعطيه الكاهن للمصلين في نهاية القداس ( ) .
والجدير بالإشارة إلى أن القضية الأساسية التي تتناولها "الهرمنيوطيقا" هي تفسير النص بشكل عام، سواء كان هذا النص نصًا تاريخيًا، أم نصًا دينيًا . وقد استخدم الغربيون العلمانيون هذا التأويل "الهرمنبوطيقا" لتفسير النصوص الدينية بالاعتماد على:
- اللسانيات.
وهي علم يدرس اللغة، ويحاول جعل البحث اللغوي معتمداً على التجريب تماماً كالبحث التطبيقي في العلوم الحسيّة البحتة، وهو على كل حال نشأ في ظروف تمدد المنهجية الوضعية الغربية وبسط نفوذها على العلوم الإنسانية لإخضاعها لمنطق الحس، (بالرغم من مفارقتها له)، ولذلك فإن هذا العلم (اللسانيات) علم يقوم على أرضية فلسفية وابستمولوجية (أصول معرفية) وضعية، وهو بذلك ليس علماً حيادياً، مما يجعل . استعماله محفوفًا بالمخاطر خصوصاً إذا كان موضوع تطبيقه القرآن الكريم. في كل الأحوال فإن اللسانيات علم يهدف إلى اكتشاف القوانين التي تحكم اللغة واستعمالاتها، وينزع إلى البحث عن القوانين التي تحكم لغات العالم جميعها في وقت واحد، وهو من هذه الجهة جديد كل الجدة.
وقد اكتسبت اللسانيات سمعة سيئة جداً في الأوساط العلمية الإسلامية؛ إذ اقترنت مع التوجهات العلمانية والتوليفات الأيديولوجية لدلالات القرآن الكريم. وهنا تبدو المفارقة، فبينما كان الاستشراق ينحو نحو الموضوعية والحيادية باستخدامه للبحث اللساني، كان الدارسون العرب يستخدمونه لتأكيد صحة اعتقاداتهم العلمانية لا لغاية البحث العلمي ( ) .
ومن هنا ، تقوم اللسانيات على اعتبار اللغة مجموعة مصطلحات أو علامات ارتضاها المجتمع حتى يتيح للأفراد أن يمارسوا قدرتهم على التخاطب ( ) . فالعرف أو الاصطلاح هو الذي يقر للعلامة بدلالتها، لأنه ما من دال إلا وكان يمكن استبداله بدال آخر ( ) .
- المنهج التاريخاني .
المنهج التاريخاني الذي يعتبر أن تفسير النص يجب أن يكون مرهوناً بتاريخه، ويجب أن يكون ساكناً هناك لحظة ميلاده، فلا يمكن فصل أي نص عن تاريخه. هذا المنهج يصدر عن نزعة مادية وضعية لا تؤمن بأن الأديان هي من صنع الله تعالى، ويعتبرها إنشاء إنسانيًّا، وذلك لأن الإنسان يتحكم به التاريخ بشكل كامل، والله مطلق منزه عن ذلك.
حاول البعض بناءً على مقولة "المنهج التاريخاني" إلصاق النص بالتاريخ لتسويغ التخلي عنه الآن، وبالرغم من أن محمد أركون المفكر الجزائري كان سباقاً منذ الثمانينيات إلى هذا المنهج، فقد اشتهر به نصر حامد أبو زيد بسبب قضية طلاق زوجته في المحاكم المصرية بتهمة الارتداد عن الدين، بسبب اعتناقه لهذه الفكرة في منتصف التسعينيات. وبينما كان محمد أركون يصدر عن عقيدة علمانية ليبرالية، كان نصر حامد أبو زيد يصدر عن عقيدة ماركسية. وفي كلا الحالتين كان يراد من المنهج التاريخي تأمين انسلاخ جماعي للمسلمين من كتابهم الكريم، من أجل تسليمهم للوضعيَّة، والدخول في الحداثة الغربية المادية بحسن نيّة وبسوئها ( ) . وتعني تاريخية النص عند العلمانيين ارتباط النص بواقعه وظروفه التي تنزل فيها إلى درجة اعتبرت أسباب النزول تساوي التاريخية وتعبر عن حقيقتها ومعناها ( ) . فالتاريخ في رأيهم هو الذي أسقط كثيرا من الأحكام ، ومن أقوال العلمانيين في قضية التارخية: " فتعاليم القرآن المقدسة مرتبطة بظروف تاريخية " ( ) . "أي ارتباطه بالواقع السياسي الاجتماعي الثقافي الذي أنتجه أو على الأقل الذي تحرك فيه " ( ) . "والعقائد الإسلامية وصياغتها ذات طابع تاريخي" ( ) . "والنص القرآني أتى ليجيب عن مشكلات بشرية ينتمي إلى زمن تاريخي معين، وحقل جغرافي محدّد " ( ) . ولا يتسنى حسن فهمه دون تنزيله في ظروفه التاريخية التي تشكل داخلها ( ) . فالقرآن إذن خطاب تاريخي ... لا يتضمن معنى مفارقا جوهريا ثابتا ( ). والرسالة القرآنية موجهة إلى أناس بأعيانهم في القرن السابع، وتتضمن ظواهر ميثية تتناسب مع ثقافة ذلك العص مثل الجنة، وإبليس، والشياطين، والملائكة، والطوفان، وعمر نوح، وهي ظواهر بعيدة اليوم عن التصورات الحديثة ( ) .
ويعتبر أركون من أقدم الذين تحدثوا عن تاريخية القرآن بشكل واضح وصريح ومباشر ، ففي مؤتمر عقد في بارس سنة 1974م قال في ردوده على المناقشات التي أثارها بحثه "أريد لقراءتي هذه أن تطرح مشكلة لم تطرح عمليا قط بهذا الشكل من قبل الفكر الإسلامي ألا وهي تاريخية القرآن، وتاريخية ارتباطه بلحظة زمنية وتاريخية معينة، حيث كان العقل يمارس آليته وعمله بطريقة محددة ( ) . ومن أمثلة التاريخية في الشريعة الإسلامية هي الأحوال العارضة للبشرية والمتغيرة ، فإذا ذهبت ذهبت أحكامها معها، وليس في ذلك ما يضير الإسلام، مثل العبيد والإمامء وتعدد الزوجات ، مما لا يمكن اعتباره جزءا من الإسلام ( ) . فكانت المرأة في الجاهلية متاعا يورث، ثم أعطاها الإسلام نصف الرجل في حالات وسوّى بينهما في حالات كثيرة، ولم يقرر الإسلام نزول ميراث المرأة عن الرجل كأصل من أصوله التي لا يتخطاها، والمرأة اليوم بتأثير العصر وروحه أصبحت تسير جنبا إلى جنب مع الرجل في كل المجالات والأحوال، وأصبحت تزاحمه في كل التخصصات، ولذلك أن الإسلام في جوهره لا يمانع في تقرير هذه المساواة من كامل وجوهها متى انتهت أسباب التفوق ، وتفورت الوسائل الموجبة ( ) . وفي قضية الحجاب أنهم اعتبروا ستر الوجه عادة فارسية تسربت إلى المجتمع الإسلامي ( ) . وأن نزع الحجاب ما هو إلا إعادة للمجتمع إلى المجتمع المتحضر الذي كان في عهد النبي  والذي هو مثيل للمجتمع الأوربي المعاصر ( ) .
ويرى أركون أنه بالتاريخية سنتخلص من العنف المسمى بالجهاد الأصغر ( ) . ويعني بالعنف هو قوله تعالى:  قَاتِلُوا الَّذِيْنَ لاَ يُؤْمِنُوْنَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ  -التوبة: 29- . وقوله تعالى :  فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِيْنَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوْهُمْ  -التوبة: 5- . وهذه الآية آية السيف تقع بين تيارين: الحرفيين الذين يقتلون بها، والليبراليين المحرجين منها في المحافل الدولية التي تدعو لحقوق الإنسان، وسبب الإحراج أنهم ينكرون أو يجهلون تاريخية القرآن ( ) . وينكرون أن هذه الآيات ليست إلا تعبيرا عن البنية الفكرية للفضاء العقلي القروسطي ( ) . ولذلك فيه متناقضة مع حقوق الإنسان، وتولد الانغلاق العقائدي ( ) . ولو فهمنا ذلك -أي أدركنا التاريخية- فإن النص أي سورة التوبة لا يمكن بعد ذلك أن تكون مرجعية أو تأسيسية، لماذا ؟ لأنها "تأرخنت" ( ) .
وعلى أية حال، فإن أسباب النزول في رأيهم يجب قصرها في الآيات التي نزلت بها.
وأما الهدف الأساسي للهرمنيوطيقا هو: "أن يعاد فهم النصوص وتأويلها بنفي المفاهيم التاريخية الاجتماعية الأصلية وإحلال المفاهيم المعاصرة الأكثر إنسانية وتقدمًا ، مع ثبات مضمون النص. إن الألفاظ القديمة لا تزال حية مستعملة لكنها اكتسبت دلالات مجازية" ( ) . ومن هنا يدّعي الدكتور نصر أبو زيد أن "الهرمنيوطيقا الغربي" صالح لتفسير النصوص الدينية من القرآن الكريم والسنة النبوية، فلا نحتاج إلى أداوت ومناهج إسلامية أخرى -كعلم أصول الفقه ، والتفسير، والتأويل وغيرها- في فهم قضايا الدينية ، يقول نصر أبو زيد: "وتعد الهرمنيوطيقا الجدلية عند جادامر بعد تعديلها من خلال منظور جدلي مادي، نقطة بدء أصيلة للنظر إلى علاقة المفسر بالنص لا في النصوص الأدبية ونظرية الأدب فحسب، بل في إعادة النظر في تراثنا الديني حول تفسير القرآن منذ أقدم عصوره وحتى الآن" ( ) . ومن ثم فإنه يطالب بالتحرر من سلطة "النصوص" وأولها "القرآن الكريم" الذي قال عنه: "القرآن هو النص الأول والمركزي في الثقافة" ( ) . لقد صار القرآن هو "نص" بألف ولام العهد ( ) . هو النص المهيمن والمسيطر في الثقافة ( ). فالنص نفسه - القرآن - يؤسس ذاته دينًا وتراثًا في الوقت نفسه ( ) .
ويرى نصر أبو زيد ضرورة التحرر من النصوص القرآنية لأنها نص جامد ثابت المعنى والدلالة( )، فقال : "وقد آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرر لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا، علينا أن نقوم بهذا الآن وفورًا قبل أن يجرفنا الطوفان"( ) . وذلك في رأيه أن القرآن منتج ثقافي فيقول: "إن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي" ( ) . ويضيف قائلا: "إن القول بأن النص منتج ثقافي يكون في هذه الحالة قضية بديهية لا تحتاج إلى إثبات" ( ) . ويقول:" الأوضاع والظروف التي أنتجت النص "( ).
وقد أكد هذا الرأي الدكتور على حرب العلماني إذ ذهب إلى أن أصحاب الفكر الحر من أمثال أركون، أدونيس، أبو زيد من نقاد الوحي والشريعة واعتبروهم من أهل التذكرة، وذوي البصيرة أي ذوي الألباب ( ) . وذهب إلى أن الهدف الأساسي لمشروع التنوير عند نصر حامد أبو زيد هو " النقد والتحليل، خطاب الوحي، بجعله مادة لمعرفة نقدية عقلانية ، شأنه بذلك شأن أي خطاب بشرى وأي إنتاج معرفي ... مستلهمًا موقف طه حسين الذي اعتبره أبو زيد الفدائي الأول في مقاومته للنظرة التقديسية إلى النصوص الدينية ( ) . وأضاف بأن كتاب "مفهوم النص" لأبي زيد في حقيقته كتاب النقد للنصوص الدينية لما يتناول فيه القرآن وعلومه تناولاً تحليليًا نقديًا ... أجل إنها لجرأة بالغة أن يتعامل باحثنا مع النص القرآني بوصفه منتجًا ثقافيًا، أنتجه واقع بشري تاريخي( ). وإعجاز القرآن ليس مجرد كونه ينطوي على تشريع أو تسنين ، وإنما كونه ينفتح على كل معنى بحيث يمكن أن تتمرأى فيه كل الذوات وأن تُقرأ فيه مختلف العقائد والشرائع ( ) . ويقول حسن حنفي : "إن النقل وحده لا يثبت شيئا، وقال الله وقال الرسول لا يعتبر حجة" ( ) . " ولقد خسرنا الآن بالرجوع إلى النص الخام ، وفي اعتمادنا على قال الله ، وقال الرسول ... وأصبحنا أسرى النصوص " ( ) . وادّعى نصر أبو زيد بأن: "فهم النص لا يبدأ من قراءة النص، وإنما يبدأ من خلفية القارئ ، وثقافته ، والدوال المكونة لهذه الثقافة ، وآفاقه المعرفية وبين النص" ( ). وأضاف بأن: "اعتماد حل المشكلات على مرجعية النصوص الإسلامية من شأنه أن يؤدى إلى إهدار حق المواطن بالنسبة لغير المسلمين" ( ).
ومن هنا استعان العلمانيون بنظرية "الهرمنيوطيقية الغربية" في بيان وشرح معاني القرآن وبخاصة فيما يتعلق بالقضايا الأخروية ومسائل الغيب، ثم في النهاية رأوا أنها أسطورة بحت، ذلك لأن القرآن في منظورهم ذو بنية أسطورية، ويموه ويعمي ويستر الحقائق ، ولا يمكن الوصول إلى حقيقته بعد موت جيل الصحابة -كما صرح بذلك أركون- ( ) . فينقل نصر أبو زيد -وغيره من العلمانيين- هذه النظرية، ليقوم بنفس الغاية التي توصّل إليها هؤلاء الملاحدة مع الكتب اليهودية والمسيحية، وبدل أن يكتفوا بإظهار أساطير القوم، الأساطير التي أظهرها الإسلام من قبلهم، أقبل نيتشه مثلاً وأعلن "أن الله قد مات" وقال ماركس بأن الحياة مادة ولا إله. وغير ذلك من خرافات وترهات الماديين الماركسيين. وبهذه الأدوات حاول "أبو زيد" أن يتعامل مع القرآن وبهذه العيون الغربية التي كلما وجدت - أو قرأت أو سمعت - اسم الله اشمأزت منه، اشمأزت منه قلوب الذين كفروا، واعتبرته رمزًا لا يقول شيئًا ولا يعنى شيئًا إنما هو حقيقة زائفة أو نافدة نطل منها على معان مناقضة لحقيقتها تمامًا.
بهذه الموازين المادية التي تنفي وجود الله وتلغي عالم الغيب لصالح عالم الحس انتهج نصر أبو زيد طريقًا في تحليل القرآن وتفسيره أي بأفق الماركسية والمادية الجدلية والهرمنيوطيقا الجدلية. بهذه الموازين نظر إلى القرآن وآياته وإلى التفسير والمعاني المستنبطة منه، ويؤكد على ذلك بقوله:"وتعد الهرمنيوطيقا الجدلية عند جادامر بعد تعديلها من خلال منظور جدلي مادي، نقطة بدء أصلية للنظر إلى علاقة المفسر بالنص لا في النصوص الأدبية، ونظرية الأدب فحسب، بل في إعادة النظر في تراثنا الديني حول تفسير القرآن منذ أقدم عصوره وحتى الآن؛ لنرى كيف اختلفت الرؤى، ومدى تاثير كل عصر -من خلال ظروفه- للنص القرآني" ( ) .
إنه يجعل هذه الأدوات الإلحادية هي نقطة الانطلاق لتأويلاتها، فينزع عن القرآن مضمونة باعتبار أن مضمون القرآن أسطوري غيبي، ويعطيه دلالات ومضامين أخرى يزعم أنها الوعي بالتاريخ والعالم والنصوص. يقول عن وعيه الجديد إنه: "وعي ينقل الثقافة ، كما نقل المواطن من حالة إلى حالة، ومن مرحلة "الوعي الديني الغيبي الأسطوري" إلى مرحلة "الوعي العلمي"( ).
وهو هنا يعطي للنظرية المادية التي تنكر الله سبحانه وتعالى وترفض الوحي، يعطيها صفة العلمية والهيمنة على القرآن. ويريد أن ينقل الثقافة الإسلامية والحقائق الإسلامية إلى حالة أخرى مغايرة لها تمامًا، حالة الوعي الماركسي والفرويدي اللعين، والذي أدى في عالم الغرب إلى فصل الإنسان عن ربه وخالقه ومبدعه في نفس الوقت الذي أنزله إلى مرتبة الحيوان –دارون (Charles Robert Darwin)- وحلل نفسيته بأنها حيوان أشد ولوغًا في الجنس من الحيوان.
إن هذا الوعي العلمي المتطرف في حكمه على الدين أدى إلى خلل كبير: "إن التصور الغربي للإنسان يشتمل على خلل أساسيين: الخلل الأول هو اعتبار أن الإنسان هو ذلك الحيوان الدارويني المتطور ، الذي قدمته نظرية دارون في القرن الماضي، وما تزال تغذيه في كثير من مجالات الدراسة، والدراسات الاجتماعية بصفة خاصة، والخلل الثاني هو دراسة الإنسان بمعزل عن خالقه الذي أنشأه وأخرجه إلى الوجود" ( ) .
من بعض المفاهيم العلمانية التي قدّمها نصر أبو زيد:
- يرى أن عذاب القبر ونعيمه ومشاهد القيامة والسير على الصراط ... إلى آخر ذلك كله من تصورات أسطورية ( ). فهو إذن ينفي حقائق القرآن ويجعلها أسطورية.
- يدّعى أن أساس الوحي ليس هو التنزيل السماوي، وأنه ليس تبليغ رسول الله  إلى الناس وحيًا من الله وإنما أساسه هو ما كان يعتقده العربي من إمكانية الاتصال بين البشر والجن- وقد قال بأن هذه الإمكانية أسطورية كما سيأتي بعد قليل، بالإضافة إلى حضور وبروز ظاهرتي الشعر والكهانة في المعرفي/ التاريخي عند العرب وارتباطهما بالجن: "لقد كان ارتباط ظاهرتي (الشعر والكهانة) بالجن في العقل العربي وما ارتبط بهما من اعتقاد العربي بإمكانية الاتصال بين البشر والجن هو الأساس الثقافي لظاهرة الوحي الديني ذاتها" ( ) .
- يرى أن الوحي ظاهرة في الثقافة، وأن الثقافة إفراز ونتائج التطورات المادية والبنى الاقتصادية والاجتماعية. فظاهرة النص ، وظاهرة الوحي ، وظاهرة النبوة ، والظاهرة الدينية -وهى أوصاف نصر أبو زيد- نتاج البيئة، والنبوة عنده ليست ظاهر فوقية مفارقة ( ) . وإنما هي فاعلية خلاقة لم تتجاوز الآفاق المعرفية للجماعة التاريخية، وهى آفاق تحكمها طبيعة البنى الاقتصادية والاجتماعية لهذه الجماعة»( ) . فظاهرة الوحي - بحسب وصفه للوحي وزعمه عنه - لم تكن غريبة عن الرسول فهو: "كان يعانى دون شك إحساسًا طاغيًا بالإهمال والضياع" ( ) . ولأنه - بحسب زعم نصر أبو زيد- لم يكن يعزل نفسه عن الواقع ولا عن استخدام إمكانياته وتطويرها لصالحه وما يدعو إليه فقد كرر في النص القرآني ، الذي يبدأ بـ (اقرأ باسم ربك الذي خلق) الفعل "خلق" ليعوض عن إحساسه بالإهمال الذي لقيه من المجتمع وليختلق له ربا. يقول: "ولا شك أن إحساس محمد الذي تتوجه إليه هذه الرسالة - بأن ربه هو الذي خلق، يتصاعد بذاته وبقيمته وأهميته، ويداوي إحساس اليتم والفقر في أعماقه. ولأن محمدًا لا يعزل نفسه من الواقع وعن إنسان مجتمعه فإن النص يكرر الفعل (خلق) كاشفًا لمحمد عن تساؤلاته عن الإنسان" ( ). إن المتحدث إلى محمد بالوحي ليس غريبًا عنه ( ) .
هكذا جعل نصر أبو زيد "النص" من إنتاج محمد  الذي لا يعزل نفسه عن الواقع ولذلك، ولسبب إحساسه بالفقر واليتم، كرر الفعل (خلق) في هذه السورة مرات ليشعر بأن له كفيلاً وعائلاً ووكيلاً. فمشروعه هو وضع التصورات الماركسية والمضامين المادية الجدلية وتفسيراتها للحياة والكون والإنسان والوحي والنبوة والغيب والعقيدة في المعنى القرآني فيصير القرآن ماركسيًا ينطق باسم ماركس وفلاسفة المادية الجدلية والهرمنيوطيقا "نظرية تفسير مادية" فيغير بذلك المفاهيم الرئيسة للقرآن، ويلغي المعاني الحقيقية للسور والآيات، ويطمس الحقائق الدينية التي رسخها القرآن وبينتها السنة . وهو لا يفعل في معركته مع الإسلام وتاريخه وعلمائه المحدثين والقدامى إلا ما يفعله الماركسيون العرب إحياء للموقف اللينيني الذي وظف التراث في الصراع الأيديولوجي ، فلينين -كما يقول جورج طرابيشي- هو أول من دعا إلى التعاطي مع التراث بمنهج البضع والبتر من خلال مناقشاته في مطلع القرن مع الشيوعيون الروس ... فلينين ... لم يكن يهمه من التراث حقيقته التاريخية، بل قابليته للتوظيف في الصراع الأيديولوجي( ) .إنه منهج الإسقاط الأيديولوجي ، الذي يستخدم القرآن للأيديولوجية المسبقة، يقول طرابيشي - العلماني- : "منهج الإسقاط الأيديولوجي يتنطع أكثر من الفهم أو عدم الفهم، فهو ينصب نفسه جراحًا يريد إخضاع التراث لعملية جراحية ليستأصل منه ما يعتقد أنه أورامه الخبيثة، وتراءى لنا، من وجهة نظر تاريخية، أن قصب السبق في مداورة المنهج البضعي أو البتري يعود إلى المثقفين والباحثين الملتزمين بالرؤية الماركسية للعالم " ( ) .هذه خبرة طرابيشي من داخل الماركسية يقول عن نفسه: "فلقد كان لكاتب هذه السطور ، هو أيضًا طور ماركسي في تطوره الفكري" ( ) . ولا يعنى ضبط طرابيشي هؤلاء الماركسيين متلبسين بالتلاعب بالتراث أنه معنا داخل الأسوار فهو أولا نصراني ثم ماركسي ثم أخيرًا فرويدي فاحش.يقول أبو زيد: "فالواقع أولاً والواقع ثانيًا ، والواقع أخيرًا " ( ) .
مما سبق يتبين لنا أن استخدام الهرمنيوطيقية الغربية لدى المفكرين العلمانيين العرب هدفهم لتقويض قداسة القرآن الكريم . ومن هنا نستطيع القول بأن عملهم لا يمت للتأويل المعتبر شرعا بأي صلة، بل هو من قبيل تحريف النصوص والتلاعب بها، وبيان ذلك -كما سبق- أن التأويل في اصطلاح أهل العلم يراد به صرف اللفظ عن ظاهره لدليل صحيح من كتاب أو سنة، أما صرفه عن ظاهره لا لدليل، فهذا لا يسمى تأويلا، وإنما تلاعب بنصوص القرآن والسنة. فأولوا كثيرا من آيات القرآن، وأحاديث النبي  على النحو الذي فعله الباطنية قديما. وقالوا بتقسيم الشريعة إلى الظاهر والباطن. ولم يكن التشابه والتوافق بين الباطنية والعلمانية منحصرا في التأويل وتقسيم النصوص إلى الظاهر والباطن فحسب، بل تداخل أكثر من هذا، حيث اتفقت آراء الباطنية مع العلمانيين في كثير من المسائل الدينية وبخاصة في مسألة السمعيات.
وعلى أية حال، فإن التأويل العلماني الموسوم بـ "الهرمنيوطيقية الغربية" لا أصل له من لغة أو عقل، أو دين، وهو في الحقيقة محاولة لتغيير أصول الإسلام والإيمان ودعوة إلى التحلل والإباحة. والله أعلم بالصواب.
______________________________________________________________

0 komentar:

Post a Comment