Wednesday, July 14, 2010

CONTEMPORARY RELIGIOUS DISCOURSE (1) في ضوء الخطاب الديني المعاصر


 القسم الأول
الخطاب الديني وضرورة التجديد
Religious discourse and the need for renewal
الدكتور/ كمال الدين نور الدين مرجوني
المقدمة:
إن الغاية الأساسية من هذا البحث، هي إثارة إشكالية التأويل والهرمنيوطيقا في الفلسفة المعاصرة -غير الإسلامية-، وتحليل مظاهرها وملابساتها، ودراسة أهم مصادرها النظرية.
وتهدف هذه الدراسة إلى استكشاف وتوضيح الإشكالية التي تقع على فلسفة الدين في عصرنا المعاصر، وهي اشكالية التأويل الإسلامي والهرمنيوطيقا الغربي، علما بأن أصحاب الخطاب العلماني العربي وغيره من الإسلاميين، قد استعانوا بالهرمنيوطيقا واستخدموه في كثير من بحوثهم وكتاباتهم بدلا من نظرية "التأويل الإسلامي" المعروف والمشروع في الفكر الإسلامي. فأعطوا للهرمنيوطيقا مساحة كبيرة وواسعة. ظنا منهم أنه صالح لمعالجة قضايا الدين الإسلامي. وخير شاهد على ذلك ما كتبه عدد من المفكرين العلمانيين من أمثال: د. محمد أركون (تـ 9/2010م)، محمد أبو القاسم حاج محمد، د. محمد عابد الجابري (تـ 5/2010م) د. حسن حنفي، د. نصر حامد أبو زيد (تـ 7/2010م)، طيب تيزيني، على حرب وغيرهم ممن كتبوا كتابات وبحوث وتحدثوا عن الخطاب الإسلامي المعاصر. تحت مظلة "الهرمنيوطيقا" أو "القراءة المعاصرة" أو "نظرة عصرية" أو "التأويل الحديث" أو "المقاربة".
وتجدر الإشارة إلى أن العلمانيين استغلوا مفهوم التأويل وهو اسلامية المصدر والأساس لكونه مفهوما إسلاميا كمدخل إلى الهرمنيوطيقا، وذلك من أجل قراءة النص قراءة حديثة أو تنويرية أو تجديدية -كما يزعمون في الآونة الأخرية-، ففسروا كثيرا من آيات القرآن على النحو من التأويل الباطني المعروف لدى الشيعة وخاصة الشيعة الإسماعيلية، ولا شك أن للقرآن أسراره ولفتاته، وإيماءاته، وإيحاءاته، وهو بحر عظيم لا تنقذ كنوزه ولا تنقضي عجائبه، ولا ينتهي إعجازه، وكل ذلك مما يتسع له اللفظ ولا يخرج عن إطر المعنى العام، ولكن دعوى أولئك العلمانيين غريبة في هذا المقصد، وهي بعينه تأويلات باطنية -كما سيأتي بيانها- لا تتصل بمدلولات الألفاظ ولا بمفهومها، ولا بالسياق القرآني، بل هي مخالفة للنص القرآني تماما، هدفها هو البحث في كتاب الله عن أصل يؤيد شذوذهم، وغايتها الصد عن كتاب الله عز وجل.
ويهدف هذا البحث أيضا إلى التنبيه أن هذه القرآءة المعاصرة أو التأويل الهرمنيوطيقا الغربي قضية قديمة قدم نشأة الفرق الكلامية ، وهي في الحقيقة قراءة باطنية وتأويل باطني، فجوهر الدعوة هو هو، كما يتضح فيما بعد من هذا البحث أنهما متفقان في طريق التأويل وهو التأويل الخارج عن دلالات اللغة العربية والأصول الشرعية، ففي رأيهم أن آيات القرآن لا تفهم في سياقها، بل بحسب كونها رموزا، وليست مجرد دلائل لسانية بسيطة. وأن النصوص القرآنية دائمة قابلة للتفسير والتأويل مهما كان، حيث أن تلك النصوص لا تنتهي عند دلالة معينة، ولا تقف عند حد. ذلك لأن الأصل والأساس عندهم أولا وأخيرا هو التأويل، وهذا مخالف لما اتفق عليه العلماء والمذاهب والفرق الدينية الإسلامية، فهم يعتبرون التأويل ليس هو الأساس، ولا هو الأصل، ولا هو المبدأ، وإنما يكون التأويل عند تعذر الظاهر  . وعلى أية حال، أثارت أطروحات المفكرين  العلمانيين الكثير من الجدل في الأوساط الإسلامية.
ومن هناأمامنا إشكالية وأسئلة مطروحة تحتاج إلى جواب وبيان هي: هل الخطاب الديني محتاج إلى التجديد، وإذا كانت الإجابة نعم، فبأي وسيلة من هذين الوسيلتين: الأول: فهل التجديد عن طريق التأويل الإسلامي. أوالثاني: وهو عن طريق الهرمنيوطيقية الغربية. وبهذا اقتضت طبيعة هذا البحث أن يقع في ثلاثة أقسام:
- القسم الأول: الخطاب الديني وضرورة التجديد.
Religious discourse and the need for renewal
- القسم الثاني: التأويل والخطاب الديني المعاصر.
Religious discourse & Ta’wil
- القسم الثالث: نظرية الهرمنيوطيقية الغربية.
Teory of Hermeneutic
القسم الأول
الخطاب الديني وضرورة التجديد
Religious discourse and the need for renewal
وقد كثر الكلام في الآونة الأخيرة عن ضرورة التجديد في الخطاب الديني أو إعادة النظر في الفكر الإسلامي المعاصر ، ودعت إلى ذلك شخصيات علمية عدة من المفكرين وأساتذة الجامعات العربية والإسلامية ، وتناولته مؤتمرات عدة ، ولم يتوقف مثل ذلك الحديث عند حد.
والجدير بالذكر أن الخطاب الديني مصطلح جديد وحديث الولادة، ذاع في العصر الحديث، وهو إصطلاح فلسفي، يقارب في الدلالة المقولةَ الفلسفية؛ فالخطاب الفلسفي لفلان ، هو منهاجه في التفكير والتصوّر وفي التعبير عن أفكاره وتصوراته، وهذا الخطاب يَتَعَارَضُ أو يَتَوَافَقُ مع الخطاب الفلسفي لفلان. وأول من أطلقه الغرب، ولم يُعرف هذا الاصطلاح من قبل في ثقافة المسلمين، بمعنى أنه ليس مصطلحا له وضع شرعي في الإسلام كالمصطلحات الشرعية الأخرى مثل الجهاد والخلافة والديار والخراج .... الخ، وإنما هو مصطلح جديد، اصطلح عليه أهل هذا الزمان. ومن هنا، يجب التفرقة بين الخطاب الديني والنص الديني، فالنص هو كل ما ثبت وروده عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله ، وهو فوق المحاسبة والاتهام. أما الخطاب الديني فهو ما يستنبطه ويفهمه ويفسره الفقهاء والعلماء من النص الديني أو من مصادر الاجتهاد.
ويتبادر إلى الذهن تصورا تجتمع فيه ثلاثة معان للتجديد:
1) إن الشيء المجدد قد كان في أول الأمر موجودًا وقائمًا وللناس به عهد.
2) إن هذا الشيء أتت عليه الأيام فأصابه البلى وصار قديمًا.
3) إن ذلك الشيء قد أعيد إلى مثل الحالة التي كان عليها قبل أن يبلى ويخلق.
ولقد استخدمت كلمة "جديد" -وليس لفظ التجديد- في القرآن الكريم بمعنى البعث والإحياء والإعادة -غالبًا للخلق-، وكذلك أشارت السنة النبوية لمفهوم التجديد من خلال المعاني السابقة المتصلة: الخلق- الضعف أو الموت- الإعادة والإحياء. ويعتبر حديث التجديد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد دينها" (رواه أبو داود): من أهم الإشارات إلى مفهوم التجديد في السنة النبوية، وقد تعلقت بهذا الحديث مجموعة من الأفكار أهمها:
1) تجديد الدين أي فهم الدين: هو في حقيقته تجديد وإحياء وإصلاح لعلاقة المسلمين بالدين والتفاعل مع أصوله والاهتداء بهديه؛ لتحقيق العمارة الحضارية وتجديد حال المسلمين ولا يعني إطلاقا تبديلاً في الدين أو الشرع ذاته.
2) زمن التجديد: اعتبر بعض الباحثين أن الإشارة الواردة في الحديث عن زمن التجديد على رأس كل مائة إنما هي دلالة على حقيقة استمرارية عملية التجديد ، وتقارب زمانه بحيث يصبح عملية تواصل وتوريث.
3) المجدِّد: اجتهد العلماء في توصيف وتحديد المجدد على رأس كل مائة سنة ، لكن البعض يرى أن المجدد يقصد به الفرد أو الجماعة التي تحمل لواء التجديد في هذا العصر أو ذاك، ويجوز تفرقهم في البلاد، ويعرفهم ابن كثير بأنهم حملة العلم في كل عصر.
ومن هنا نفهم أن التجديد هو إعادة الشيء إلى أصله أو على مثل ما كان عليه، وبذلك فالحديث يقصد إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل قرن من الزمان من يعيد الأمة إلى مسارها الصحيح، ويبدد عنها الانحرافات والضلالات التي أصابت الأمة عبر قرن من الزمان، ومسار الأمة الصحيح إلى يوم القيامة هو كتاب الله عز وجل وسنة رسوله  قال الرسول  في حجة الوداع: «وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا أمرا بينا كتاب الله وسنة نبيه». وفي حديث آخر للرسول  عن العرباض بن سارية  قال: وعظنا رَسُول اللَّهِ  موعظة بليغة...، « فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ »، وعن عائشة رَضِيِ اللَّهُ عَنْها قالت قال رَسُول اللَّهِ : « مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ »( ) .
إذن، فمفهوم التجديد في الفكر الإسلامي: يعني الرجوع إلى الطريق الصحيح والنبع الصافي، أو العودة إلى الأصول وإحياءها في حياة الإنسان المسلم ؛ بما يمكن من إحياء ما اندرس ، وتقويم ما انحرف، ومواجهة الحوادث والوقائع المتجددة، من خلال فهمها وإعادة قراءتها تمثلاً للأمر الإلهي المستمر بالقراءة: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" -العلق: 1- ( ) .
مما سبق يتضح أن مبدأ التجديد -منذ البداية- أمر يقبله الاسلام، وتنبأت به بعض الأحاديث وتحدثت عنه، وذكر بعض الدارسين والباحثين عدداً من رجال التجديد التي اعتبروها مجددة خلال القرون الماضية، فاعتبروا عمر بن عبدالعزيز مجدد القرن الهجري الثاني، والشافعي مجدد القرن الهجري الثالث.
ويبدو أن الأستاذ أمين الخولي هو أول من طرح مفهوم التجديد في الدين بمعنى الإصلاح والتغيير، وذلك في عام 1933 في مجلة الرسالة المصرية ( )، وقبله استخدم الإمام السيوطي مصطلح التجديد بمعني الاجتهاد. وارتبط المصطلح أيضا بمعنى الإحياء، كما في كتاب المفكر الهندي وحيد الدين خان "تجديد علوم الدين" وقبله الكتاب الشهير "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالي. وحفلت الحياة الفكرية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بالرد على المستشرقين حول إمكانية التجديد في الدين وملاءمته لكل زمان ومكان ، وربما يكون كتاب عبد المتعال الصعيدي "المجددون في الإسلام" وكتاب محمد إقبال "تجديد الفكر الديني في الإسلام" من أهم ما يعبر عن هذه المرحلة .
ويقوم خطاب الإسلام على أساسين بينهما ارتباط وثيق وامتزاج وتلازم إلى حد عدم الانفصال، وهما مجتمعان يشكلان الخطاب الإسلامي.
أولاً : الوحي :
وهو المتمثل بنصوص القران الكريم ونصوص السنة النبوية، وما أرشد إليه من إجماع صحابة وقياس، وهي المصادر الأربعة التي تقوم عليها الثقافة الإسلامية ، وينتج عنها كل فكر إسلامي، وأول هذه المصادر هو:
1) الكتاب الكريم: (وهو القرآن المنزل علي سيدنا محمد ، وهو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف بالأحرف السبعة نقلا متواترا)( ). وهو كلام الله عز وجل الأصل المقطوع به عند جميع المسلمين، وهو المصدر الأول للتشريع كما يقول الأصوليون، قال تعالى:  إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً  - الإسراء: 9 -.
2) السنة النبوية: وهي «كل ما صدر عن الرسول  من قول أو فعل أو تقرير». والسنة هي المصدر الثاني للتشريع والاستدلال بها كالاستدلال بالقران تماما لا فرق بينهما من ناحية الاحتجاج، قال الله تعالى:  فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً  - النساء :59 -، ويكون الرد بعد وفاة الرسول  بإتباع سنته من بعده، قال تعالى:  وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ  - الحشر: 7 -، وعن المقداد بن معد يكرب عن الرسول  قال: « إني أوتيت الكتاب وما يعدله، يوشك شبعان على أريكته أن يقول: بيني وبينكم هذا الكتاب فما كان فيه من حلال أحللناه، وما كان فيه من حرام حرمناه، إلا وانه ليس كذلك » ( ) .
3) الإجماع: وهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم، وهو حجة باتفاق لأنه قامت الأدلة القطعية على حجيته والخلاف وقع في حجة إجماع من بعدهم وهو الإجماع الوحيد الذي لم يختلف فيه الأصوليون وهو يكشف عن دليل لم يصل إلينا ( ) .
4) القياس: وهو إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر لاشتراكهما في علة الحكم عند المثبت.
هذه هي المصادر المتفق عليها عند جمهور العلماء، وهي بمجموعها تشكل الأساس الأول الذي يقوم عليه الخطاب الإسلامي، وهناك مصادر أخرى مختلف عليها بين العلماء، مثل المصالح المرسلة، والاستحسان، وسد الذرائع، ومذهب الصحابي، وهذه تبقى شبه أدلة وما تفرع عنها بصحيح النظر يعتبر من الثقافة الإسلامية أيضا ويندرج تحت الخطاب الإسلامي( ) .
ثانياً : اللغة العربية:
وهي لغة الإسلام ووعاء أفكاره ومعارفه، وهي جزء جوهري في إعجاز القران، والقرآن لا يكون قرآنا إلا بها، ونحن متعبدون بلفظه، قال الله تعالى :  إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ  - الزخرف: 3 -، ولا يمكن الاجتهاد إلا بها، وهي شرط أساسي من شروط الاجتهاد، لأن النصوص الشرعية جاءت من عند الله بلفظها، ولهذا كان من الواجب أن تكون اللغة العربية هي التي يقوم عليها الخطاب الديني، ويجب مزجه باللغة العربية، لأنه بخصائصهما المشتركة تتولد طاقة عظيمة كفيلة بإنهاض المسلمين ، فالله سبحانه وتعالى اختار اللغة العربية وعاء للدين لما في اللغة العربية من مزايا وخصائص تمتاز بها عن اللغات الأخرى، والقرآن هو معجزة لرسولنا ، وهو دليل على صدق نبوته، وبالتالي هو دليل على صدق الإسلام، وإعجازه ليس مقصورا على العرب دون غيرهم، بل جاء التحدي للعالمين جميعا، قال الله تعالى:  قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا  - الإسراء: 88 - ، ونحن نعلم يقينا أن الإعجاز في القرآن في كيفية صياغة هذا الفكر الراقي بهذه اللغة العربية الراقية بنحو راق لا يرقى إليه ولا إلى شيء منه بشر ولا كل البشر، لذلك كانت اللغة العربية هي الأساس الثاني للخطاب الإسلامي، ولا يمكن أن يفهم هذا الخطاب إلا بلغته.
ومن ناحية أخرى، فإن اللغة العربية ارتبطت بشعائر الإسلام وعباداته وغدت جزءًا أساسيًّا من لغة المسلم اليوميَّة وفي حياة الأُمَّة الإسلاميَّة ؛ لأنَّها ملازمة للفرائض الإسلاميَّة؛ فقد أوجب الإسلام أن تكون إقامة الصلاة وتلاوة القرآن وترتيله، والأذان، ومناسك الحج والدعاء، وسائر الشعائر الدينيَّة، ونحو ذلك باللغة العربية، كما فرض على المسلمين في مختلف الأقطار والأمصار تعلم آي القرآن الكريم وحفظه وفهمه، والإكثار من تلاوته، ويتحتم على الإمام والواعظ إتقان العربية، لكي يفهم أحكام القرآن والسنَّة، ويحسن شرحها وتفسيرها، ومعروف أن أحكام القرآن وتعاليمه لايصح أن تؤخذ إلاَّ من نصه العربي، ولاتعد ترجمته إلى أيِّ لغة إلاَّ تفسيرًا لمعانيه، فلاتستنبط أحكامه منها.
ومن شروط المجدد كما يقول شارح سنن أبي داود: "المجدد لايكون إلا من كان عالما بالعلوم الدينية، ومع ذلك من كان عزمه وعمته آناء الليل والنهار إحياء السنن ونشرها ونصر صاحبها، وإماتة البدع ومحدثات الأمور ومحوها وكسر أهلها باللسان، أو تصنيف الكتب والتدريس، ومن لا يكون كذلك لا يكون مجددا البتة، وإن كان عالما بالعلوم، مشهورا بين الناس مرجعا لهم" ( ) .
ولو أتينا إلى العصر الحديث لوجدنا أن بعضاً من العلماء والمفكرين قد ساهموا في تجديد بعض نواحي الحياة العلمية الاسلامية، فرأينا بعض العلماء ساهم في تجديد بعض الأمور الفقية أو الفروع وبعضهم ساهم في تجديد علم أصول الفقه وبعضهم حاول إبراز الأحاديث الصحيحة وتمييزها عن الضعيفة من أمثال الزهاوي في العراق، والبيطار في سورية، ومحمد رشيد رضا في مصر، وعلاّل الفاسي في المغرب، وابن باديس في الجزائر، وابن عاشور في تونس وغيرهم. وكذلك لو جئنا إلى عصرنا الآن لوجدنا عددا من رجال الفكر والدعوة ، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر ، الشيخ محمد الغزالي ، الشيخ متولي الشعراوي، د. محمد عمارة ، د. يوسف القرضاوي . فلكل هؤلاء دور بارز في تجديد الخطاب الإسلامي المعاصر ، واختاروا التـأويل كمنهج إسلامي لتجديد الخطاب الإسلامي والفكر الديني ، وأوضحوا للجميع بأن الدين الإسلامي دين وسطي لا إفراط فيه ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصير. وأن تجديد الدين لا يعني تغييره أو تبديله لأن التجديد على هذا المعنى إلغاء الدين، وإنما يعني المحافظة عليه والعودة للمنابع وأصول الدين، وترك التقليد الفاسد القائم على الاتباع والمحاكاة على غير بصيرة. فالتجديد عملية إصلاحية محافظة، وليس عملية تخريبية متفلتة ( ) .
ومع كل هذا ، فقد ذهب بعض المفكرين المعاصرين إلى فكرة التجديد ولكن غير التجديد الذي ننشد إليه، حيث رفعوا شعار التأويل العلماني المعروف باسم "الهرمنيوطيقا"، وهو منهج التأويل الغربي لمعرفة حقيقة الدين. وممن تبنى هذا الرأي محمد أركون، محمد شحرور، محمد سعيد العشماوي، محمد عابد الجابري، حسن حنفي، نصر حامد أبو زيد وغيرهم، والذي يدفعهم إلى استخدام المنهج الغربي في التأويل أنهم يريدون تجديد الخطاب الإسلامي كالذي أحدثته الحضارة الغربية في الدين المسيحي من ناحيتي التنكر للآخرة والمقدس والتنكر للغيب. ونسوا أن الدين الإسلامي غير الدين المسيحي في المبدأ والمنهج والطريق والعمل، حيث جاء هذا التنكر في أوروبا نتيجة ظروف خاصة مرت بها الكنيسة الغربية، إذ تبين لأوروبا أن مقدس الآخرة مدنس كما في حال صكوك الغفران التي ثار عليها الراهب مارتن لوثر في المانيا، واعتبرها امتهاناً للدين والانسان، وتبين لأوروبا أن الغيب الذي تفرضه الكنيسة بخصوص انبساط الأرض وثباتها وأنها مركز الكون مناف للعلم، فكانت الحصيلة أنه لا بد من رفض هذا الغيب واعتماد العقل من أجل التوصل الى علم صحيح، والابتعاد عن سيطرة الكنيسة ودعاوى الكنيسة. ومن ثم فمعظم جمهور العلمانية في الغرب ترك الكنيسة؛ لأن الدولة هي التي أصبحت تمثل العلمانية تمثيلاً دقيقًا.
إن الحرص على تجديد مشابه لتجديد أوروبا، وقياس الحضارة الاسلامية على نموذج الحضارة الأوروبية هو الذي جعل بعض الدارسين لا يقبلون أي تجديد لأنه تجديد غير مشابه لتجديد أوروبا، ولأنه لم يلغ المقدس من مفردات الدين الاسلامي، ولأنه لم يلغ الغيب من عناصر الحياة الاسلامية، والذين يقولون بذلك يتناسون أن التاريخ الأوروبي غير التاريخ الاسلامي، فالتجديد الديني الذي عرفته أوروبا في عصر الأنوار جاء نتيجة سيطرة الكنيسة على الدين والثقافة والسياسة والفكر، وأدى ذلك الى أزمات وجودية هزت المجتمع الأوروبي، فكان لا بد من إبعاد السيطرة الكنسية عن الدين والثقافة والفكر والسياسة ، وكان لا بد من إطلاق العقل والثقافة من أجل مواجهة أوهام وخرافات الكنيسة، ولا بد من إنشاء المجتمع المدني من أجل مواجهة المجتمع الكنسي، ولا بد من بناء علوم دنيوية في مواجهة العلوم الدينية ، فالتاريخ الاسلامي لم يعرف كنيسة ولم يعرف سيطرة كنسية لذلك فإن التجديد الذي يجب أن يقوم به المسلمون يتطلب أن تكون له سيرورة مختلفة عن السيرورة الأوروبية، وليس بالضرورة أن يتم من خلال إلغاء المقدس، وإلغاء الوحي والغيب، بل يمكن أن يبقى الأمران ونزيد من تفعيل العقل ونزيد من مساحة البحث والاستقصاء والمعالجة، ومن ثم معالجة الأمور الخاصة بالفرد المسلم والمجتمع الاسلامي التي يطرحها الواقع الاسلامي مثل بروز الفردية وضعف الجانب الجماعي في كيان المجتمع، ومثل الافتقار النفسي، والسلبية في مواجهة الأحداث المحيطة ، وقلة التقويم لما يحدث حولنا.
وعلى أي حال، فإن تجديد الخطاب الديني الذي عناه الغرب، إنما هو تغيير وتبديل وتحريف في جوهر الإسلام، لأن الغرب يرى أن الإسلام يحمل مفاهيماً متميزة وخطابه يقوم على التمايز وعدم الاندماج والتمييع، وهو يحمل وجهة نظر خاصة، ويطرح نظاماً بديلا ًلكل الأنظمة الوضعية، وبذلك فهو يشكل تهديدا صريحا لمصالح الغرب، ولذا تعالت أصوات الساسة الغربيين بضرورة تطوير الخطاب الديني عبر صياغة جـديدة ترضي آمال الغرب .

0 komentar:

Post a Comment