Saturday, November 10, 2012

إشكالية التأويل في المنهج الظاهري

إشكالية التأويل في المنهج الظاهري
"ابن حزم نموذجا"
الدكتور/ كمال الدين نور الدين مرجوني
رئيس قسم الدعوة والإدارة الإسلامية بجامعة العلوم الإسلامية الماليزية

          "يرجع المذهب الظاهري من حيث النشأة إلى داؤد بن علي بن داؤد بن خلف الاصبهاني المُكنَي بأبي سليمان، ومولده بالكوفة عام 202هـ، وتوفي ببغداد عام 270هـ، فهو أول من أعلن القول بالظاهر بمعنى التصنيف فيه، وبثه، والدعوة إليه. وقد كان شافعياً أول أمره، بل هو أول من صنف في مناقب الشافعي. وينسب إلى أصبهان، وهي مدينة لا تزال قائمة إلى الآن في إيران، وهي مدينة من مدن الجبا، و " أَصْبَهان " بكسر الهمزة وفتحها - وهو الأشهر - وسكون الصاد المهملة، وفتح الباء الموحدة - ويقال: بالفاء أيضاً - وفتح الهاء وبعد الألف نون"

      تلقى داود الظاهري العلم ببغداد على يد أبي ثور وإسحاق بن راهويه وعدد من تلاميذ الإمام الشافعي. وسمع الكثير من الحديث، ثم اتجه للظاهر، وأنكر القياس. فقد قال بأخذ الأحكام من ظواهر النصوص، من غير تعليل لها. فهو بذلك ينفي القياس في الأحكام قولاً. وانتشر المذهب الظاهري في عهد مؤسسه، برغم المعارضة الشديدة لهذا المذهب. وكان انتشار المذهب بما قام به داود من كثرة التأليف، فقد ألف كتبًا كلها سنن وآثار مشتملة على أدلته التي أثبت بها مذهبه. ولا شك أن الكتب بذاتها آثار مستمرة ، تدعو إلى مذهب مؤلفيها وتبقى سجلاً لأفكارهم. وقد كان عنده حديث كثير. وكان فصيحاً حاضر البديهة، سريع الاستدلال. كما كان جريئاً فيما يعتقد أنه الحق، لا يهاب النطق به، ولا يخشى فيه لومة لائم. وكان مع جرأته ناسكاً عابداً، يعيش على القليل أو أقل القليل. فكان يرد الهدايا ولا يقبلها. وفضلاً عن ذلك فقد كان جم التواضع، لا يتعالى على أحد بعلمه، كما لا يستطيل على الناس بعبادته. وهذا كله ساهم في نشر مذهبه، لكن بشكل محدود.
     ويحدثنا الإمام تاج الدين السُّبكي الشافعي عن محاسن عدد من الفقهاء – ومنهم داود الظاهري –، حيث قال: " ونعتقدُ أنَّ أبا حنيفة، ومالكاً، والشافعيَّ، وأحمدَ، والسُّفْيَانّين، والأوزاعيَّ، وإسحاق بنَ راهوية، وداود الظاهريَّ، وابن جرير، وسائرَ أئمة المسلمين: على هُدىً من الله تعالى في العقائد وغيرها، ولا التفاتَ إلى من تَكلَّم فيهم بما هم بريئون منه، فقد كانُوا من العلوم اللَّدُنِّيَّةِ، والمواهب الإلهية، والاستنباطات الدقيقة، والمعارفِ الغزيرة، والِّينِ والوَرَعِ والعبادةِ والزهادةِ والجلالة: بالمحلِّ الذي لا يُسامى " ( ) .
      وبالرغم من اهتمام تلاميذه بنشر كتبه، فإن عدم تبني السلطان للمذهب يعني عدم انتشاره. ومما ساهم في اندثاره: عدم اعتماده على المصادر الاجتهادية المرنة التي تعطي للفقه الإسلامي قابلية التطور والنمو. فبدء المذهب الظاهري يتلاشى بعد داود وابنه شيئاً فشيئاً. لكن لما ظهر ابن حزم الأندلسي في القرن الخامس الهجري، تهيأت بجهوده واجتهاداته الظروف لانتشار المذهب الظاهري من جديد. فقد خدم ابن حزم المذهب الظاهري بما قام به من وضع لأصوله وتدوينها في كتب عديدة، تضمنت بجانب ذلك دفاعه عن المذهب. ومن هنا يحسن بنا أن نعرف شيئا من شخصية ابن حزم الظاهري لدوره الفعال في نشر وبث المذهب الظاهري. ولد أبو محمد علي المشهور بابن حزم بقرطبة عام 384هـ، قال القاضي صاعد بن أحمد التَّغْلبيُّ (462هـ): "كتبَ إليَّ ابنُ حزمٍ ـ بخطِّه ـ يقول: ولدتُ بقرطبةَ، في الجانب الشَّرقي، في رَبَضِ منية المغيرة، قبل طلوع الشَّمس، وبعد سلام الإمام من صلاة الصُّبح، آخر ليلة الأربعاء، آخر يومٍ من شهر رمضانَ المعظَّم ـ وهو اليوم السابع من نُوَنْيِر ( ) ـ سنة أربع وثمانين وثلاث مئة، بطالع العقرب، وتوفي عام 456هـ. وقد نشأ في بيت له سلطان وثراء وجاه. فنشأ في تنعُّمٍ ورفاهيَّةٍ، ورُزِقَ ذكاءً مفرطاً، وذهناً سيَّالاً، وكتباً نفيسةً كثيرةً. وكان والده من كُبَراء أهل قرطبة؛ عمل الوزارة في الدَّولة العامرية، وكذلك وَزَرَ أبو محمَّد في شَبِيبَتِهِ( ) .
      فلقد حدد ابن حزم تاريخ ميلاده في رسالة أرسلها إلى القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي (تـ 462هـ) أنه ولد في آخر يوم من أيام رمضان سنة 384هـ، وكانت ولادته في تلك الليلة بعد الفجر، وقبل طلوع الشمس( ) . وقد أعجب بهذا التحديد الدقيق الشيخ أبو زهرة قائلا: "لا يكاد الباحث الدارس يجد عالما عظيما قد عرف وقت ميلاده بطريق التعيين، ولكن يعرف وقت وفاته بالتعيين، لأنه ولد مغمورا وما مشهورا، فكان وقت الولادة غير معلوم على وجه التحقيق ووقت الوفاة كان معلوما، وإن ابن حزم على غير ذلك، فقد عرف وقت ولادته، وعين لا بالسنة فقط، بل بالشهر واليوم وجزء اليوم الذي ولد فيه"( ) .
      وكان ولادته في بيت يتمتع بالثراء والرياسة والوجاهة – حيث كان والده أحمد بن سعيد من كبار الوزراء في وزارة المنصور بن أبي عامر ثم ابنه المظفر من بعده –، حافظاً، عالماً بعلوم الحديث وفقهه، مُسْتنبطاً للأحكام من الكتاب والسُّنَّة، متفنِّناً في علوم جمَّةٍ، عاملاً بعلمه، زاهداً في الدُّنيا بعد الرئاسة التي كانت له ولأبيه من قبله من الوزارة وتدبير الممالك، متواضعاً، ذا فضائل جمَّة، وتواليف كثيرة في كلِّ ما تحقَّق به في العلوم، وجمع من الكتب في علم الحديث، والمصنَّفات، والمُسندات؛ شيئاً كثيراً ، وسمع سماعاً جمَّاً. وأقبل على الفلسفة وعلم اللسان، فبلغ في كل ذلك مرتبة عالية، ثم اتجه من بعد ذلك إلى الفقه، فدرسه على مذهب مالك، مع أنه من مذاهب أهل الرأي، لأنه كان مذهب الأندلس في ذلك الوقت. ثم لم يلبس أن انتقل إلى المذهب الشافعي، فأعجبه تمسكه بالنصوص، واعتباره الفقه نصاً أو حملاً على النص ، وشدة حملته على من أفتى بالاستحسان. ولكنه لم يلبث إلا قليلاً في الالتزام بالمذهب الشافعي، حتى اطلع على كتب داود الظاهري فترك مذهب الشافعي لما وجد أن الأدلة التي ساقها الشافعي لبطلان الاستحسان تصلح لإبطال القياس وكل وجوه الرأي أيضاً. فاتجه إلى الأخذ بالظاهر، وشدد في ذلك، حتى أنه كان أشد من إمام المذهب الأول داود الأصفهاني. قال عنه أبو مروان بن حيان: «مال أولاً إلى النظر على رأي الشافعي، وناضل عن مذهبه حتى وُسِمَ به. فاستهدف بذلك لكثير من الفقهاء (المالكية)، وعِيبَ بالشذوذ. ثم عدل إلى قول أصحاب الظاهر، فنّحه وجادل عنه وثبت عليه إلى أن مات».
     وتكاد تجمع المصادر التي ترجمت لأبي محمد بن حزم على أنه كان قرشيا بالولاء، فارسيا بالجنس، وإنه لذلك الولاء كان يتعصب لبني أمية، بعادي من عاداهم ويوالي من والاهم، ولا يشذ عن هذا الاتفاق على نسبه إلا ابن حيان وابن سعيد والمؤرخ الأسباني سانتشث البرنس، ودكتور طـه الجابري، حيث يذهب هؤلاء إلى كون ابن حزم أسبانيا ( ) . ولكن غالبية المؤرخين الذين تناولوا سيرة ابن حزم أكدوا على فارسيته، ويفخر ابن حزم نفسه بكونه فارسيا وبولائه لبني أمية في إحدى قصائده التي منها:
سما بي ساسان ودارا وبعدهم قريش العلي أعياصها والعنابس
فما أخرت حرب مراتب سؤددي ولا قعدت بي عن ذري المجد فارس ( ) .
     وعمل ابن حزم فترة في السياسية محاولاً إعادة إنشاء دولة قوية للمسلمين في الأندلس، بعد أن مزقت دويلات الطوائف الخلافة الأموية. وكان أيضاً من المجاهدين الأبطال ضد النصارى بسيفه وقلمه. وله دفاع عظيم عن الإسلام، إذ قام بإبطال ما كان يثيره اليهود والنصارى من افتراءات ضد الإسلام وأهله. وكان ابن حزم عالماً فذاً، تمتع بحافظة قوية واسعة، ورواية للحديث غزيرة، واطلاع مذهل على كتب الفقه. وما دخل الأندلس رجلاً أوسع منه معرفة، إلا أن يكون معاصره ابن عبد البر، فهما قرينا . وكان له مع هذه الحافظة الواعية. وكان ذا بصر بعلوم كثيرة من حديث وفقه وجدل ونسب، وما يتعلق بأذيال الأدب، مع المشاركة في أنواع من العلوم القديمة كالمنطق والفلسفة. كما أن لابن حزم دراسات نفسية وخلقية، وقد وضحت الدراسة النفسية في كتابه طوق الحمامة ووضحت دراسته الخلقية في رسالة مداواة النفوس. وقد أفادنا ابن حزم بمؤلفات كثيرة نافعة في كثير من العلوم الدينية وغير الدينية. ويثني ابن حزم على باحثي علم المنطق حيث يصفهم بأنهم: "قوم نظروا بأذهان صافية، وأفكار نقية من الميل، وعقول سليمة، فاستناروا بها، ووقفوا على أغراضها، فاهتدوا، فاهتدوا بمنارها، وثبت التوحيد عندهم ضرورية لا محيد عنها ... ووجدوا هذه الكتب الفاضلة كالرفيق الصالح، والخدين الناصح، والصديق المخلص" ( ) .
     ومن المعروف أن الظاهرية مذهب فقهي ( ) يقوم على ظواهر النصوص من الكتاب والسنة، فلا يتمسك بالرأي في حكم من أحكام الشرع. فلا يستخدمون القياس( )، والاستحسان( )، وسد الذرائع( )، ومصالح المرسلة( ). وإن لم يكن من نص، فيؤخذ بحكم الاستصحاب( ) الذي هو الإباحة الأصلية، حيث قرر الظاهرية أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما جاء به نص يثبت تحريمه، فقد قال تعالى عند نزول آدم إلى الأرض: وَلَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِيْن، فإن الله تعالى أباح الأشياء بقوله إنها متاع لنا، ثم حظر ما شاء، وكل ذلك بشرع.
     وعلى هذا تكون الأصول التي ينبني عليها الفقه الظاهري أربعة: الكتاب، والسنة والإجماع، والاستصحاب.
      فيتميز الظاهرية بالاهتمام الشديد بالنصوص وذلك لطبيعة منهجهم المتجه للكتاب و السنة؛ فتجد كتبهم مليئة بالنصوص الشرعية من الكتاب و السنة. ويحكي لنا ابن تيمية شيئا من رأي الظاهرية فقال: "ومن لم يلحظ المعاني من خطاب الله ورسوله ، ولا يفهم تنبيه الخطاب وفحواه من أهل الظاهر، كالذين يقولون إن قوله :  فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ  – الإسراء : 23 – لا يفيد النهي عن الضرب، وهو إحدى الروايتين عن داود ، واختاره ابن حزم. وهذا في غاية الضعف. بل وكذلك قياس الأَولى، وإن لم يدل عليه الخطاب، لكن عُرِفَ أنه أولى بالحُكم من المنطوق بهذا. فإنكاره من بدع الظاهرية التي لم يسبقهم بها أحدٌ من السلف. فما زل السلف يحتجون بمثل هذا ( ) . وتعتبر الظاهرية من الاتجاهات التي لم تحظ بتحديد دقيق أو تعريف جامع من قبل مؤسسيها وأقطابها، فليست في كتب أي محمد بن حزم المطبوعة تقريبا أية إشارة إلى تعريف للظاهر يسم منهجه ويذكر شروطه وحدوده، ويتبسط في شرح فكرته ويمثل لها. ويرجع أبو عبد الرحمن الظاهري أن يكون السبب في ذلك أن كتب ابن حزم الفقيهة والأصولية المطبوعة من مؤلفات الأخيرة التي كتبها إنما كانت لتطبيق الظاهرية لا لشرحها ( ) .
     وقد تأثر كثير من العلماء بالظاهرية أو بابن حزم على وجه الخصوص كابن الأمير والشوكاني -من علماء الزيدية- ( ) ، حتى قيل أن محي الدين بن عربي تأثر كذلك به إلا أنه نفى بشدة فقال : "نسبوني إلى ابن حزم وإني لست ممن يقول: قال ابن حزم، لا ولا غيره، فإنه مقالتي، قال: نص الكتاب، ذلك علمي أو يقول الرسول أو أجمع الخلق، على ما أقول، ذلك حكمي" ( ) . وقد وصفه المشتشرقون الأوربيون بمؤسس علم الأديان المقارن من أجل كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل ( ) .
     يتضح مما سبق أن المذهب الظاهري قام على يد عالمين هما (داود الظاهري) و(وابن حـزم). فأصّله داود، وزاده ابن حزم تأصيلا وتجديداً. ولا يلجأون إلى القياس إلا حين الاضطرار إليه. ولا شكّ أن ألمعية ابن حزم وشهرتَه زادتهُ قوّة وأكثر جمعاً، أعجبَ قوماً وأغضب آخرين. ويلاحظ أن عدم تبني السلاطين للمذهب الظاهري – إلا قليل منه – ( ) جعل المذهب يتقدم بطيئة، ومن المعروف أن أي مذهب يحتاج لعلماء يقومون به ليستمر. ويحتاج للتدوين ليبقى ولا يضيع. ويحتاج كذلك إلى دعم من السلطان حتى ينتشر. والمذهب الظاهري قد تأمن له - في بعض الفترات العلماء - وتأمن له التدوين، لكن عدم تبنيه من أحد الحكام أوصله لنتيجة حتمية هي عدم الانتشار، وصار من الصعب اليوم اعتماد مذهب الظاهرية إلا تقليداً لابن حزم. فأين كتب الظاهرية المطبوعة التي ينصح بقراءتها عدا كتب ابن حزم كالفصل والملل والأهواء، والمحلى ( ) .
     والجدير بالذكر هنا – ونحن نتحدث عن منهج الظاهرية – أن غالب أسانيد ابن حزم ترجع إلى أربعة من كبار أئمة الحديث في الأندلس فهم: بقي بن مخلد، وقاسم بن أصبغ، وأحمد بن خالد، ومحمد بن أيمن. ولذلك نجد عنده من الآثار ما لا نجده عند أحدٍ غيره من المشرقيين، لأن كتب هؤلاء الكبار لم تصل للمشرق على أهميتها (وبخاصة ابن مخلد وابن أصبغ). وهي اليوم مفقودة. ونذكر فيما يلي أهم أعلام المذهب الظاهري:
1) الإمام داوود بن علي الأصفهاني المشهور بـ (داود الظاهري)، وهو كما سبق أنه أول من نادى باسم الظاهري و ذلك لانتشار المذهبية و الرأي في زمنه.
2) ابنه الإمام أبو بكر محمد بن داود الظاهري.
3) الإمام النحوي نفطويه.
4) الإمام ابن حزم الظاهري المكنى بأبي محمد و اسمه علي و يعرف أيضا باسم علي بن حزم الأندلسي.
5) الحافظ ابن طاهر القيسراني.
6) الإمام النحوي المفسر أبو حيان الأندلسي -صاحب تفسير البحر المحيط-.
وهناك من المعاصرين: أبو تراب الظاهري، أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، مقبل بن هادي الوادعي.
     وفيما سبق من الحديث عن نشأة الظاهرية يتضح أنه كان للظاهرية نشأتان، نشأة تأسيس على يد داود الظاهري، ونشأة تنظير وتطبيق على يد ابن حزم الظاهري.
منهج الظاهرية
     لم تكن ظاهرية ابن حزم في مجال الفتيا والتشريع فحسب، وإنما امتدت لتشمل الإلهيات عنده( ) . لذلك اعتمد المذهب الظاهري على القرآن والسنة، فوقفوا عند ظاهر نصوصهما، كما تدل عليه ألفاظ اللغة العربية، وفي ذلك يقول ابن حزم: "وحمل الكلام على ظاهره الذي وضع له في اللغة فرض، لا يجوز تعديله إلا بنص أو إجماع، لأن من فعل ذلك ، فقد أفسد الحقائق كلها، والشرائع كلها، والمعقول كله" ( ) . وفي موضع آخر أنه صرح ببطلان القياس قائلا: "هو عندنا عين الباطل"( ). وقال في كتابه (النبذ في أصول الفقه الظاهري) أنه لا يحل لأحد أن يفتي، أو يقضي، أو يعمل في الدين إلا بنص قرآني، أو حديث عن النبي  أو إجماع متيقن( ) . فهذه مصادر ثلاثة للنص الذي يعمل وفقه، ويشترط في هذا النص أن يؤخذ بظاهره، فلا يجوز لأحد أن يحيل آية عن ظاهرها، ولا خيرا عن ظاهره إلا بنص آخر صحيح مخبر أنه على غير ظاهره، أو باجماع لا شك فيه( ) ، أما إذا وقعت اللفظة في اللغة على معنيين فصاعدا وقوعا مستويا، فإنه لا يجوز أن يقتصر بها على أحدهما بلا نص ولا اجماع( ) .
      واضح من هذه النصوص أن المصادر الشرعية عندهم هي النصوص فقط، فلا علم في الإسلام إلا من النص الشرعي. ولذلك رفض الظاهرية القياس والاستحسان وما إلى ذلك. وكان ابن حزم شديد التمسك والتباهي بهذه الظاهرية، ويقول شعرا:
وذي عذل فيما سباني حسنه يطيل ملامي في الهوى ويقول
أمن حسن وجه لاح لم تر غيره ولم تدر كيف الجسم أنت قتيل
فقلت له : أسرقت في اللوم فاتئذ فعندي رد لو أشاء طويل
ألم تر أني ظاهري وأنني على ما بدا حتى يقوم دليل ( ) .
     وقد وصف لنا ابن حيان طريق مناظرته بأنه يحمل هذا العلم ويجادل من خالفه على استرسال في طباعه وبذل بأسراره، ولم يكن يلطف صدعه بما عنده بتعريض، ولا يرقه بتدريج، بل يصك به من عارضه صك الجندل، وينشقه متعلقة انشقاق الخردل( ) .
     وفي الحقيقة أن الأخذ بظاهر الكتاب والسنة كان هو الفكرة التي سيطرت على دولة الموحدين من قبل يعقوب بن يوسف هذا، فقد كانت رأي أبيه وجده، ومنهاجهما الشخصي، بل منهاج من دعا إلى دولتهم، وهو محمد بن تومرت، ولكن يعقوب هذا أعلن ذلك القول ونادى به، وحمل الناس عليه بقوة السطان، وقد كان ابن حزم يقول: إن مذهبين انتشروا بقوة السلطان، مذهب مالك بالمغرب، ومذهب أبي حنيفة بالمشرق، ولو أنه عاش إلى أن رأى ما صنع يعقوب بن يوسف لوجد أن مذهبه لم ينشر فقط بنفوذ السلطان، بل يحمل عليه الناس قسرا، وإحرق كتبه ما عداه من المذاهب، أو بالأحرى الكتب المالكية، والدليل على ذلك أي أنه منهاج دولة الموحدين:
- أولهما: ما جاء في كتاب "المعجب" من أن أول رسالة كتبت كانت في الصلاة فقد ذكر أنها على نهج رسالة ابن تومرت في الطهارة، فابن تومرت كان أول من نادى بذلك، وهو داعية الموحدين، وقد انقضّ على المرابطين ليمهد الأمر لأولئك الموحدين، فإن هذا يدل على أن الاتجاه إلى الكتاب والسنة لاسخراج أحكام الفروع من نصوصهما فقد مبدأ عند الموحدين من وقت نشأتهم، لأنه طريقة الداعية لملكهم.
- ثانيهما: ما يحكيه صاحب "المعجب" عن أبي يعقوب، وهو يوسف بن عبد المؤمن، فإنه يقول: "إن الحافظ أبا بكر من الجدّ قال: "لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب أول دخلة دخلتها عليه وجدت بين يديه كتبا ابن يونس، فقال لي: يا أبا بكر أنا أنظر في هذه الآراء المتشعبة التي أحدثت في دين الله، أرأيت يا أبا بكر المسألة فيها أربعة أقوال، أو خمسة أقوال، أو أكثر هذا، فأي من هذه الأقوال هو الحق وأيها يجب أن يأخذ بها المقلد، فافتتحت أبين له ما أشكل عليه من ذلك، فقال لي وقطع كلامي: يا أبا بكر، ليس إلا هذا، وأشار إلى المصحف، أو هذا، وأشار إلى سنن أبي داود وكان عن يمينه، أو السيف". وترى من هذا أن ما أظهره يعقوب كان نية أبيه وجده، فلما تهيأت الفرص أعلن رأيهما ( ) .
     والسؤال المطروح بنفسه – استنادا إلى رفضه القياس( ) – ، هل ابن حزم يستخدم التأويل عند التعامل مع النصوص الشرعية ؟.
      يذهب الدكتور زكريا إبراهيم إلى أن ابن حزم اعتمد على منهجين في المناقشة والاستدلال:
- أولا: المبادئ العقلية المقررة في أوائل الحس وبداءة العقل.
- ثانيا: النصوص، فيرفض التأويل أو القياس أو التعليل، مؤكدا أن دين الله تعالى ظاهر لا باطن فيه، وجهر لا سر تحته، كله براهان لا مسامحة فيه، ولم يكن عند رسول الله  سر ولا رمز، ولا باطن غير ما دعا الناس كلهم إليه ( ) .
        والحقيقة، أن ابن حزم على الرغم من رفضه القياس، إلا أنه استعمل التأويل في كثير من القضايا والمسائل الأصولية، حيث يرى أن التأويل: "لا يخلو من أحد وجهين، لا ثالث لهما: إما تأويل يشهد بصحته القرآن، أو سنة صحيحة، أو إجماع، فيه نقول: إذا وجدناه، وإما تأويل دعوى لا يشهد بصحته، نص قرآني، ولا إجماع، فهذا الذي ننكره وندفعه، ونبرأ إلى الله تعالى منه" ( ) . ويتضح من هذا النص أن الظاهرية قسموا التأويل إلى نوعين :
- الأول: التأويل المستند إلى القرآن والسنة. وهذا النوع من التأويل جائز ومسموح به في الدين ( ) .
- والثاني: التأويل الذي لا سند له في القرآن والسنة. وهذا التأويل لا يجوز الاشتغال به لخطورته وضرره على الدين .
     وقال الحافظ ابن كثير وهو يحدثنا عن ابن حزم في تأويله للآيات والآحاديث المتعلقة بالصفات الإلهي : "كان ابن حزم كثير الوقيعة في العلماء بلسانه وقَلَمه، فأوْرثه ذلك حِقداً في قلوب أهل زمان . ومازالوا به حتى بَغّضَوه إلى ملوكهم ، فطردوه عن بلاده. والعجب –كل العجب– منه أنه كان ظاهرياً حائراً في الفروع، لا يقول بشيء من القياس لا الجلي ولا غيره. وهذا الذي وَضَعَهُ عند العلماء، وأدْخَلَ عليه خطأ كبيراً في نظره وتصرّفه. وكان – مع هذا – من أشد الناس تأويلاً في باب الأصول وآيات الصفات وأحاديث الصفات، لأنه كان أولاً قدْ تضلّع من علم المنطق، أخذه عن محمد بن الحسن المذحجي الكناني. ففسُد بذلك حاله في باب الصفات" ( ) .
      وهذا يدلنا على أن ابن حزم في الحقيقة يستخدم التأويل في المسائل الأصولية دون الفروعية كما يتضح فيما بعد من آراء الظاهرية في قضايا الاعتقاد. وقد استشار ابن كثير الإمام النووي في مؤلفات ابن حزم وهو في المنام، فقال : "ورأيتُ في ليلة الإثنين الثاني والعشرين من المحرم سنة ثلاث وستين وسبعمائة الشيخ محي الدين النووي رحمه الله فقلت له: يا سيدي الشيخ لِمَ لا أدْخلتَ في "شرحك المهذب" شيئاً من مصنفات ابن حزم ؟ فقال ما معناه: أنه لا يحبه. فقلت له: أنت معذور فيه فإنه جمع بين طرفيْ النقيضين في أصوله وفروعه. أما هو في الفروع فظاهريّ جامد يابس . وفي الأصول قول مائع قرمطة القرامطة وهَرَس الهرائسة . ورفعت بها صوتي حتى سمعت وأنا نائم. ثم أشَرْتُ له إلى أرض خضراء تشبه النخيل بل هي أرْدأ شكلاً منه، لا يُنتفع بها في اسْتغلالٍ ولا رعي. فقلت له: هذه أرض ابن حزم التي زرعها. قال: انظر، هل ترى فيها شجراً مثمراً أو شيئاً يُنتفع به ؟ فقلت: إنما تصلح للجلوس عليها في ضوء القمر. فهذا حاصل ما رأيته. ووقع في خلدي أن ابن حزم كان حاضرنا عندما أشرْت للشيخ محيي الدين إلى الأرض المنسوبة لابن حزم، وهو ساكتٌ لا يتكلم"( ) .
      وقد انتقد ابن حزم مناهج المتكلمين، حيث صرح بأن طرق الإستدلال التي يلجأ إليها علماء الكلام إنما هي طرق عقيمة، ما افترض الله تعالى قط على أحد، ويؤكد أن هجومه على المتكلمين وطرائقهم، وكراهيته لعلم الكلام، لم يصدر عن عداوة لعلم كان يجلهه، بل عن خبرة ودراسة مستفيضة ( ) . بل يرى ابن حزم أن المتكلمين أجسر الناس على أمور عظيمة تقشعر منها الجلود، وعلى اطلاق العظائم على الباري عز وجل بلا مبالاة، ويحكي عن أحد إخوانه أنه قال له: "أسألك بالله: هل بلغك أن أحدا أسلم على يدي متكلم من هؤلاء المتكلمين واهتدى على أيديهم من ضلالة ؟ وهل أسلم من أسلم، واهتدى من اهتدى إلا بالدعاء المجرد الذي مضى عليه السلف ؟ ... بل ما وجدتم أحدث الله تعالى على أيديهم إلا الفرقة والشتات والتخاذل وافتراق الكلمة ... ثم هم في خلال ذلك أبعد الناس عن المجيء ببرهان حق، وأكثرهم سفسطة وتخليطا واضطرابا وتناقضا" ( ) .
      والواقع، أن ابن حزم قد نسى نفسه بأنه متكلم بارع، بالإضافة إلى أنه وقع في خطأ حينما يزعم بأنه ليس بأحد أسلم على يدي متكلم ، ذلك أنه قد أسلم فعلا أناس كثيرة على يدي أبي الهذيل العلاف ما يزيد على ثلاثة آلاف رجل ( ) .
      ويشكو ابن حزم من طائفة من أهل زمانه ينتسبون إلى أهل الحديث – ولعله يقصد بهم طائفة من الحشوية –، لأنهم ابتدأوا الطلب لحديث النبي  فلم يزيدوا على طلب علوم السند والغرائب، دون أن يهتموا بشيء مما كتبوا، ولا يعلمون به، وإنما يحملون حملا، لا يزيدون على قراءته، دون تدبير معانيه، دون أن يعلموا أنهم المخاطبون به، وأنه لم يأت مهملا، ولا قاله الرسول  عبثا، بل أمرنا بالتفقه فيه، والعمل به. وأكثر هذه الطائفة لا عمل عندهم إلا بما جاء من طريق مقاتل بن سليمان والضحاك بن مزاحم، وتفسير الكلبي، وكتاب البزدوي، وهذه المصنفات إنما هي خرافات موضوعة، وأكاذيب ولدها الزنادقة ، تدليسا على الإسلام وأهله، فأطلقت هذه الطائفة كل اختلاط لا يصح، كقولهم: إن الأرض على حوت ، والحوت على قرن ثور، والثور على صخرة، والصخرة على عاتق ملك، والملك على ظلمة، والظلمة على ما لا يعلمه إلا الله ، وأمثال هذه الأقوال فضلا أنها خرافات، فإنها توجب الكفر. ونافرت هذه الطائفة كل برهان، ولم يكن أكثر قولهم إلا:"نهينا عن الجدال"، ويقول ابن حزم في تعجب: "فليت شعري من نهاهم عنه ، والله عز وجل يقول :  وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ  – النحل : 124 –، فهذا نص القرآن المنزل، وقد نص الله أيضا على أصول الدلائل الواضحة البرهانية، ونبهنا عليها في كتابه العزيز، وعلى لسان نبيه الكريم، كما أمرتا بالتفكير في خلق السموات والأرض، ولا يصح الاعتبار في خلقهما، إلا بمعرفة هيآتهما، وانتقال الكواكب في أفلاكها، واختلاف حركاتها، فمن علم ذلك، وأشرف عليه، رأي عظيم القدرة، وأيقن أن ذلك كله بتدبير حكيم قادر خالق. وزعم قوم من هذه الطائفة أن الدين لا يثبت إلا بالدعوى والغلبة، وهذا خلاف قوله تعالى :  قُلْ هَاتُوْا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ  – البقرة : 111 ، النمل : 64 –، وقد حاج ابن عباس الخوارج، وما علمنا أن أحدا من الصحابة نهى عن الاحتجاج، وزادت هذه الطائفة غلوا، فعابوا كتبا لا معرفة لهم بها، ولا طالعوها، كالكتب التي فيها هيئة الفلك ومجاري النجوم، والكتب التي جمعها أرسطوطاليس في حدود الكلام ومعانيه، وهذه كلها كتب دالة على توحيد الباري عز وجل وقدرته، وهي عظمية المنفعة في انتقاد جميع العلوم، ومعرفة كيفية الوصول في الاستنباط" ( ) .
       وفي موضع آخر أن ابن حزم يصرح أن المنطق هو الوسيلة: "إلى معرفة الأشياء على ما هي عليه، وإلى إمكان التفهم الذي به ترتقي درجة الفهم، ويتخلص من ظلمة الجهل، وفيها تكون معرفة الحق من الباطل" ( ) ، فإذن هذه الأدلة العقلية مهمة في تمحيص الحقائق وبطلان الزائف منها، ونحن نجد ابن حزم يكثر من استعمالها. فقد اعترض عليه يوماً من له علم بالفلسفة فقال له: "ليس للعقل ضد لكن وجوده ضد وهو عدمه. فقلت للّذي ذكر لي هذا القول أن هذه سفسطة وجهل، ولو جاز له هذا التخليط لجاز لغيره أن يقول ليس للعلم ضد لكن لوجوده ضد وهو عدمه. فيبطل التضاد من جميع الكيفيات، وهذا كلام يعلم فساده بضرورة العقل( )، فالبديهيات المنطقية عنده هي ما انتقلت عليه الحواس وبرهن عليه العقل، وبهذا نستطيع أن نثبت المثبت وننفي المنفي( ) .
      وفي في مجال الطبيعيات أن ابن حزم يذهب إلى القول بالعلل الأربع، أي الأصول والمبادئ التي قالت بها المدارس اليونانية القديمة من تراب، وماء، ونار، وهواء، ويرفض أن يطلق على الله لفظ (علة) ورد على الكندي في قوله بأن الله علة، ويقول عنه إنه نقض توحيده، وهدم بناءه، ويعلل رفضه بأن العلة فيها معنى الضرورة إلى معلولها، وفي المعلول معنى الضرورة إلى علته، وكل منهما مضاف إلى الآخر، مضطر إليه، متصل به، وأن هذه الصفات لا تتفق مع صفات الخالق الأول الذي كان قبل أن يبدع شيئا غنيا عن كل شيء، ويقول إن الله هو المبدع للعلل، وأنه هو الذي ابتدع جميع المعلولات لأجل تلك العلل التي سبقت منه، وأنه ليس شيء من المعلولات كائنا إلا موضوعة وضعا من الله تعالى أن يكون علة ومعلولا( ) .
     والواقع أن أبن حزم الأندلسى كان قد سبق الغزلى فى هذا الشأن بقرون وهو ما يضع علامات استفهام كثيرة حول منهج إسلامى يأبى القياس الأصولى دليلاً ويعتمد القياس المنطقى اليونانى.
      ويتضح مما سبق أن ابن حزم بالغ في القول بأن كتب أرسطوطاليس (المنطق والفلسفة) كتب دالة على توحيد الباري سبحانه وتعالى، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على دفاع ابن حزم عن العقل وبراهينه، ومن هنا فضل ابن تيمية مذهب الأشاعرة على مذهب الظاهرية ، فصرح – رحمه الله تعالى – بأنه: "من المعلوم الذي لا يمكن مدافعته، أن مذهب الأشعري وأصحابه في مسائل الصفات أقرب إلى مذهب أهل السنة والحديث من مذهب ابن حزم" ( ) . وقال في موضع آخر: "الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل – ومن قَبله من الأئمة – في القرآن والصفات. وإن كان أبو محمد بن حزم في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره، وأعلم بالحديث، وأكثر تعظيماً له ولأهله من غيره. لكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات، ما صرفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم في ذلك. فوافق (ابن حزم) هؤلاء (السلفيين) في اللفظ، وهؤلاء (الفلاسفة) في المعنى. وبمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث، باتباعه لظاهرٍ لا باطن له، كما نفى المعاني في الأمر والنهي والاشتقاق، وكما نفى خرق العادات ونحوه من عبادات القلوب. مضموماً إلى ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر، والإسراف في نفي المعاني، ودعوى متابعة الظواهر. وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة، ما لا يدفعه إلا مُكابر. ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال، والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام ولجانب الرسالة، ما لا يجتمع مثله لغيره. فالمسألة التي يكون فيها حديث ، يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح. وله من التمييز بين الصحيح والضعيف والمعرفة بأقوال السلف، ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء" ( ).
إذن، فالمسألتان الوحيدتان التي كاد ابن حزم يوافق بهما السلف الصالح، هما مسألة الإيمان ومسألة القدر.
       وعلى أية حال ، فابن حزم - بخلاف حاله في غالب الفروع -:
- كان في أصول الدين مختلف الأحوال مضطرب، ولم يكن له منهج ثابت واضح كما هو حاله في الفروع وسبب هذا كما ذكر العلماء دخول شبهات المتفلسفة المتمنطقة عليه، وبسببها تخلى عن ظاهريته المعروفة وسلك مسلك التأويل أو التفويض وتناقض، فيؤول بعض الآيات القرآنية والسنة النبويـة فيما يتعلق بالأصول الدينية.
- وأما في الفروع فأبرز منهجه التمسك بظواهر آيات القرآن الكريمة والسنة النبوية وتقديمهما على مراعاة المعاني والحكم والمصالح التي يظن لأجلها أنها شرعت. ولا يعمل بالقياس عندهم ما لم تكن العلة منصوصة في المحل الأول (المقيس عليه) ومقطوعاً بوجودها في المحل الثاني (المقيس) بحيث ينزل الحكم منزلة (تحقيق المناط).
- كما يحرم العمل بالاستحسان، ويستدل بالإجماع الواقع في عصر الصحابة فقط؛ ولا يعمل بالمرسل والمنقطع خلافاً للمالكية والحنفية والحنابلة، ولا يعمل بشرع من قبلنا، ولا يحل لأحد العمل بالرأي لقوله تعالى : مَا فَرَّطْناَ فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ – الأنعام :38- وتعدية الحكم المنصوص عليه إلى غيره تعد لحدود الله تعالى، ولا يحل لأحد القول بالمفهوم المخالف. والتقليد حرام على العامي كما هو حرام على العالم وعلى كل مكلف جهده الذي يقدر عليه من الاجتهاد .
       ولم يمت مذهب الظاهري بموت ابن حزم، بل إنه نشر من بعده، نشره تلاميذه الذين تلقوا عليه، ونشروه بنشر كتبه، فهو وإن لم يكن له أتباع من بعد في الأقاليم الإسلامية، كان علمه منشورا بين العلماء يقيسون منه ويأخذون عنه، وخير شاهد على ذلك كتابه المشهور في العقيدة ومقارنة الأديان "الفصل في الملل والأهواء والملل"، وكان أول من نشر علمه ببلاد المشرق تلميذه الحميدي وهو من كبار تلامذة ابن حزم، الذي جمع الصحيحين، فإنه هرب من الأندلس بعد وفاة ابن حزم، وكان في هروبه نشر المذهب في المشرق بالكتب المدونة التي سجلته، ومات في سابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ( ) .
__________________________________________________
مصادر البحث:
( ) تاج الدين السبكي ، جمع الجوامع في أصول الفقه ، 2/ 441 . ولمزيد من الترجمة انظر مؤلفات الإمام الذهبي ، سير أعلام النبلاء : 1/3 97. وتذكرة الحفاظ : 2/ 572. و العبر في خـبر من غبر ، 1/ 389 . وميزان الاعتدال ، 1/ 321 . والمغني في الضعفاء : 1/ 320 . وراجع : الخطيب البغدادي ، تاريخ بغداد ، 8/369 . ابن النديم، الفهرست ، ص 271 . ابن شهبة ، طبقات الشافعية، 1/ 77 . الصفدي ، الوافي بالوفيات : 13/ 296 . ابن تغري بردي ، النجوم الزاهرة : 3/ 47 . ابن العماد ، شذرات الذهب : 2/ 158 . ابن كثير ، البداية والنهاية ، 11/ 47 . ابن كثير، طبقات الفقهاء الشافعية ، 1/ 172 . العبـادي ، طبقات الفقهاء ، ص 58 الداودي ، طبقات المفسرين ، 1/ 166 - 169.
( ) وهو: نوفمبر ـ تشرين الثاني ـ سنة 994 من تأريخ النصارى .
( ) انظر : صاعد الأندلوسي ، طبقات الأمم ، ص 86 . ابن بشكوال ، الصلة ، 2/427 .
( ) انظر : ابن بشكوال ، كتاب الصلة ، 2/396 . المقري ، نفح الطيب ، 2/284 . ياقوت الحموي ، معجم البلدان ، 12/237 .
( ) محمد أبو زهرة ، ابن حزم ، 22 .
( ) انظر : ابن سعيد ، المغرب في حل المغرب ، 1/355 . سانتشث البرنس ، ابن حزم قمة أسبانية ، ص 143 ، ترجمة : د . الطاهر مكي . د. طه الجابري ، ابن حزم صورة أندلسية ، ص 14 .
( ) انظر : د. إحسان عباس ، تاريخ الأدب الأندلسي ، ص 304 .
( ) ابن حزم ، التقريب لحد المنطق ، ص 3 – 4 .
( ) دائرة المعارف الإسلامية ، 15/409 ، دار المعرفة ، بيروت . ومما يدل على أن الظاهرية ليس مذهبا كلاميا ، أن ابن حزم قسم الفرق إلى : (( أهل السنة والمعتزلة والمرجئة والشيعة والخوارج)) ، ثم يبين بعرض سريع للمسائل الكلامية التي جعلت كُلاً من هذه الفرق تتشعب وتتفرق إلى فرق عديدة فمعظم اختلاف أهل السنة – وهي الفرقة الرئيسية الناجية عنده – كان في الفُتيا وشيء يسير من الاعتقادات ، أما الفرق الباقية ، فإنه يُقَوِّمها على أساس قربها من أهل السنة ، ويفصل في الأمر على النحو الآتي . وعلى هذا الأساس يذهب ابن حزم الظاهري إلى القول بضعف حديث الافتراق، ولذلك لا يعتمد عليه في نظرته للفرق الإسلامية ، وإنما تأخذ هذه الفرق مفهومها من خلال مقالاتها ومعتقداتها . انظر : الفصل في الملل والأهواء والنحل ، 2/256 ، 2/65 .
( ) القياس في اللغة: هو التقدير والمساواة، ومن ناحية الاصطلاح اختلف الأصوليون فيه: فالشافعي يسوي بينه وبين الاجتهاد ويعتبرهما اسمان لمعنى واحد. الرسالة، ص 477، مطبعة الحلبي، القاهرة، 1940م. ويعرفه الباقلاني بأنه: حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما، أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما. وامتدح الآمدي هذا الحد ورأى أن ذكر (المعلوم) في الحد بدلا من (الأصل) و (الفرع) يدخل فيه الموجود والمعدوم، وأن حمل الفرع على الأصل معناه التشريك في الحكم، وأن هذا الحكم قد يكون نفيا، وقد يكون إثباتا، وأن حمل الفرع على الأصل لا يتم إلا بجامع، وأن الجامع قد يكون حكما وقد يكون صفة، ومع هذا تعرضالحد لتشكيكات كثيرة دفع الآمدي ببطلانها. الاحكام في أصول الأحكام، 3/266، مطبعة المعارف، القاهرة، 1914م. وعرفه أبو الحسين البصري بتعريفين الأول بأنه: تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد. والثاني بأنه: تحصيل الحكم في الشيء باعتبار تعليل غيره. المعتمد في أصول الفقه. 2/699.
       إذن، فإن القياس إنما هو ردُّ الفرع إلى أصله بعلة جامعة بين الأصل والفرع. ولم ينسب نفي القياس إلا إلى الظاهرية وإلى الشيعة الإمامية وإلى بعض المعتزلة.
( ) الاستحسان فى اللغة: مصدر استحسن الشىء عده حسنا جاء فى الأحكام للأمدى: " هو فى اللغة مشتق من الحسن" ومثله فى كشف الأسرار. انظر: الأحكام للأمدى،4/211. كشف الأسرار للبزدوى، 4/1124. .
      ويقول الأمدي إنه قد اختلف أصحاب أبى حنيفة فى تعريفه فمنهم من قال: أنه عبارة عن دليل ينقدح فى نفس المجتهد لا يقدر على إظهاره لعدم مساعدة العبارة عنه.. ومنهم من قال: أنه عبارة عن العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى منه ... ثم قال: ونقل عن أبى الحسن البصرى تعريفه بأنه ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه هو أقوى منه وهو فى حكم الطارىء وعلق الآمدى على هذا التعريف بأنه قصد بقوله غير شامل شمول الألفاظ الاحتراز عن العدول عن العموم إلى القياس لكونه لفظا شاملا وعلق على قوله وهو فى حكم الطارىء بأنه احتراز عن قولهم: تركنا الاستحسان بالقياس فإنه ليس استحسانا من حيث أن القياس الذى ترك له الاستحسان ليس فى حكم الطارىء بل هو الأمل. وعرفه صدر الشريعة فى التنقيح بأنه دليل يقابل القياس الجلى الذى تسبق إليه الأفها. وفى التحرير للكمال والتيسير عليه لباد شاه: أن الاستحسان القياس الخفى بالنسبة إلى قياس ظاهر متبادر ويقال لما هو أعم من ذلك وهو كل دليل واقع فى مقابلة القياس الظـاهر بنص كالسلم. راجع: الأحكام للأمدى، 3/20. 4/78. 4/211، 212.
       وقال الشاطبى: الاستحسان فى مذهب مالك.الأخذ بمصلحة جزئية فى مقابلة دليل كلى ثم نقل عن ابن العربى أنه إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخص لمعارضة ما يعارض به فى بعض مقتضياته. وأنه قالا فى أحكام القرآن: إن الاستحسان عندنا وعند الحنفية هو العمل بأقوى الدليلين. الموافقات للشاطبى، 4/116. وقد نقل الشوكانى: هذا التعريف عن الباجى ونسبه إلى أصحاب مالك فقط. الشوكانى، ص224. والسالمى الإباضى فى طلعة الشمس: يدور مع صاحب جمع الجوامع فى فلكه حول ما أورده من تعريفات. طلعة الشمس 1/185.
        ومن أمثلة الاستحسان: إجازة الاقتراض لبعض أنواع السلع الوزنية وإعادة منها عددا بصرف النظر عن التفاوت في الوزن، مع ان مثل هذا التفاوت يعتبر في الأصل من قبيل الربا غير الجائز شرعاً. الوصية، فإن مقتضى القياسى عدم جوازها لأنها تمليك مضاف لما بعد الموت، وهو زمن تزول فيه الملكية، إلا أنها استثنيت من تلك القاعدة العامة بقوله تعالى: من بعد وصية يوصى بها أودين . مثل إجماع العلماء على جواز عقد الاستصناع وهو أن يعقد شخص مع آخرعقدا لصنع شىء من الثياب أو الحذاء بثمن معين، فإن مقتضى القياس بطلانه ، لأن المعقود عليه - وهو العمل - وقت القصر معدوم ، ولكن أجيز العمل به لتعامل الناس به كل الأزمان من غير إنكار العلماء عليه.
        والاستحسان نُسب العمل به إلى أبي حنيفة والإمام أحمد رضي الله عنهما، وذلك بناءً على ما في مذهبيهما من الفروع. قال محمد بن الحسن: "كان أبو حينفة رحمه الله يناظر أصحابه في المقاييس، فينتصفون منه ويعارضونه، حتى إذا قال (أستحسن) لم يلحقه أحد منهم لكثرة ما يورد في الاستحسان من المسائل، فيدعون جميعا ويسلمون له". وقال سهم بن مزاحم: "كان-أبو حينفة- يمضي الأمور على القياس، فإذا قيح القياس يمضيه على الاستحسان". انظر: موفق، مناقب الإمام الأعظم، 1/82، 90.
قد رده الشافعي في كتاب إبطال الاستحسان. ورده الآمدي في الإحكام، والغزالي في المستصفى. واشتهر عن الشافعي قوله: "من استحسن فقد شرع" وقد عُدّ الاستحسان عند من ردوه قولاً بالتشهّي والهوى. والأقوال في تعريفه مختلفة، وتجعل معانيه مختلفة.
       وقد أبطل الإمام الشافعى الاستحسان وعقد فصلا خاصا تحت عنوان: (كتاب إبطال الاستحسان) قائلا: إذا قال الحاكم والمفتى فى النازلة ليس فيها خبر ولا قياس استحسن فلابد أن يزعم أن جائزا لغيره أن يستحسن خلافه فيقول كل حاكم فى بلد ومفت بما يستحسن. فيقال فى الشىء الواحد بضروب من الحكم والفتيا فإذا كان هذا جائزا عندهم فقد أهملوا أنفسهم فحكموا حيث شاءوا وإن كان ضيقا فلا يجوز أن يدخلوا فيه وإن قال الذى يرى منهم ترك السايس: بل على الناس اتباع ما قلت: قيل له من أمر بطاعتك حتى يكون على الناس اتباعك أرأيت إن ادعى عليك غيرك فذا أتطيعه أم تقول: لا أطيع إلا من أمرت بطاعته ؟ فكذلك لا طاعة لك على أحد. وجاء فى الرسالة للشافعى: أن حراما على أحد أن يقول بالاستحسان إذا خالف الاستحسان الخبر، وفى مقام آخر يقول إن حلال الله وحرامه أولى ألا يقال فيه بالتعسف ولا الاستحسان أبدا إنما الاستحسان تلذذ و" لا يقول فيه إلا عالم بالأخبار عاقل بالتشبيه عليها. انظر: الأم، 7/373. مقدمة الجزء الأول من الام، ص 69-70.
       فالشافعي يقصر مجال الاجتهاد على القياس دون الإستحسان، ووجهة نظره في هذا أن القياس يتوجه القائس فيه إلى دلائل قد نصبها الله ليقاس عليها، وهذه الدلائل المنصوبة نفتقدها في الاستحسان الذي لا يتبع فيه المستحسن دلالات ظاهرة، إنما يتبع خطرات وهمة بلا دلالة منصوبة على حد تعبير الشافعي. الأم، 7/272-272. وانظر: د. محمد بلتاجي،2004م، مناهج التشريع الإسلامي في القرن الثاني الهجري، ص 549-550، القاهرة، دار السلام.
       وعلى أية حال فإن فكرة الاستحسان إنما هي قسيم لفكرة القياس، ولأجل ذلك قال علماء الأصول: إن الاستحسان إنما هو اسم لدليل يقابل القياس الجلي، يعمل به عند تعذر العمل بالقياس. وأما حجيته فهو حجة شرعية عند: الحنفية والمالكية والحنابلة، وأنكر حجيته الشافعية والظاهرية والمعتزلة والشيعة فليس عندهم بدليل يعتد به. ويلاح الدكتور محمد بلتاجي أن الاستحسان الذي يرفضه الشافعي ويهاجمه في عنف إنما هو الحكم بمجرد ما تهواه النفس ويخطر على الوهم بلا مثال أو مقيس، ودلالة خارجية – غير ما يجوس في النفس – يرجع إليها. د. محمد بلتاجي،2004م، مناهج التشريع الإسلامي في القرن الثاني الهجري، ص 550.
( ) سد الذرائع في اللغة: الذرائع جمع ذريعة، وهي الوسيلة، والسبب إلى الشيء، وأصلها لغة من ذرع. ويقال : سد الطرق حتى لا تؤدي إلى نتائجها وآثارها، بصرف النظر في كون هذه الآثار محمودة أن مذمومة. انظر: المصباح المنير، 1/208. مختار الصحاح،1/ 226 مادة (ذرع). سد الذرائع للبرهاني ص25وما بعدها.
       وتعريف "الذرائع" اصطلاحاً: يقول ا بن تيميه: "الذريعة هي الوسيلة، لكنها أصبحت في عرق الفقهاء عبارة عما أفضى إلى فعل محرم". الفتاوى الكبرى، 6/174. وعرفها الشاطبي بقوله: "حقيقتها التوسل بما هو مصلحة الى مفسدة". الموافقات، 4/199. وهو بهذا يذهب مذهب التفريق الاصطلاحي بين الوسائل والذرائع، فالوسائل مؤداها المصالح بينما الذرائع مؤداها المفاسد، وهذا ما ذهب اليه ابن القيم في بيانه لمكانة سد الذرائع من الدين حيث قال: "وباب الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أامر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما مقصود لنفسه، والثاني وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: احدهما ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني ما يكون وسيلة الى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية الى الحرام أحد أرباع الدين". إعلام الموقعين، 3/130.
        وأما معناها العام فهي: "الوسيلة التي تكون طريقاً إلى الشَّيء". إعلام الموقعين، 3/117. سواء أكان هذا الشيء قولاً أو فعلاً بصرف النَّظر عن كونه مفسدة أو مصلحة. والذَّرائع عند المازريّ هي: "منع ما يجوز لئلا يتطرّق إلى ما لا يجوز". مقاصد الشَّريعة: للفاسيّ، ص 154. والمراد بـ "سدّ لذَّرائع": "منع الوسائل المؤدية إلى المفاسد، فما يؤدي إلى محظور فهو محظور".
      وعلى هذا فالذريعة بالمعنى الاصطلاحي هي : أحد أفراد الذريعة بالمعنى اللغوي، يؤكد ذلك ما قاله القرافي رحمة الله: "أعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره، تندب، وتباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة، كالسعي للجمعة والحج، وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد، وهي المتضمنة المصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل، وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم، وتحليل، غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها، والوسائل إلى أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسطة. انظر: الفروق، 2/33. إعلام الموقعين، 3/147.
      فالزِّنا حرام، والنَّظر إلى عورة المرأة وسيلة إلى الزِّنا، فكلاهما حرام، وقضاء القاضي بعلمه ممنوع، لئلا يكون ذريعة إلى حكمه بالباطل، ويقول: حكمت بعلمي، وشهادة العدو على عدوه لا تصح لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى بلوغ غرضه من عدوه بالشّهادة الباطلة، والجمع بين السَّلف والبيع ممنوع، لئلا يكون اقترانهما ذريعة إلى الرِّبا. ويروي ابن رشد في المريض الذي يطلق زوجته بائنا ويموت من مرضه أن جمعا كبيرا من الفقهاء قالوا إن زوجته ترثه عملا بسد الذرائع، وقال بعض الفقهاء: إنها لا ترث. يقول ابن رشد: "وسبب الخلاف اختلافهم في وجوب العمل بسد الذرائع، وذلك أنه لما كان المريض يتهم في أن يكون إنما طلق زوجته في مرضه ليقطع حظها من الميراث، فمن قال بسد الذرائع أوجب ميراثها، ومن لم يقل بسد الذرائع ولحظ وجوب الطلاق لم يوجب لها ميراثا، وذلك أن هذه الطائفة تقول: إن كان الطلاق قد وقع فيجب أن يقع بجميع أحكامه" . ثم يقول ابن رشد: إن القائلين بالرأي الأول استأنسوا له بأنه: "فتوى عثمان وعمر حتى زعمت المالكية أنه إجماع الصحابة. ولا معنى لقولهم فإن الخلاف فيه عن ابن الزبير مشهور". بداية المجتهد، 2/68.
       ففي مجال العقيدة نهى الله عز وجل عن الذرائع التي تفضي إلى الشرك والكفر أو البدعة، من ذلك قوله تعالى (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)(الأنعام:108) فقد حرم سب الأصنام إذا كان سبها يفضي إلى سب الله عز وجل. وقال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا) (البقرة:104) فنهى عن قول ( رَاعِنَا ) لمّا كان اليهود يقولون هذه الكلمة للرسول صلى الله عليه وسلم ويقصدون بها الرعونة، وأمر بقول: (انْظُرْنَا) بدلاً عن: ( رَاعِنَا ) سداً للذريعة. و مشهور عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى قوماً يختلفون إلى الشجرة التي وقعت تحتها بيعة الرضوان في الحديبية أمر بقطعها سداً لذريعة الشرك. وقال: إنما أهلك من كان قبلكم تتبعهم لآثار أنبيائهم. ولما فتح المسلمون بلاد تَسْتُر في المشرق وجدوا سريراً عليه ميت يزعمون أنه دانيال النبي وكانوا يتبركون به ويستسقون به المطر. فأمر الخليفة رضي الله عنه بأن يحفر ثلاثة عشر قبراً في المقبرة ويدفن ليلاً في واحدٍ منها حتى يخفى على الناس مكان قبره ليسد عليهم وسيلة الشرك بالتعلق بهذا القبر والتبرك به.
( ) المصالح المرسلة في اللعة: المصالح: جمع مصلحة، وهي المنفعة، والمصلحة كالمنفعة وزنا ومعنى، فالمراد بها لغة: جلب المنفعة، ودفع المضرة، والمرسلة: أى المطلقة. المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية 1/ 520 لسان العرب لابن منظور 4/2479، دار المعارف.
        واصطلاحا: عبارة عن المصلحة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم ، ونفوسهم ، وعقولهم، ونسلهم،وأموالهم طبق ترتيب معين فيما بينها. المحصول في علم الأصول لفخر الرازى، 2/ 220. فهذا التعريف صرح بأن المصلحة: هي جلب منفعة مقصودة للشارع الحكيم ،وإن كان لم يصرح بأن دفعا لضرر من المصلحة أيضا، إلا أن تعريفه ينوه به ويلزم منهالاجتهاد فيما لا نص فيه. د. الطيب خضرى السيد 2/ 53 مكتبة الحرمين بالرياض 1983م. وقد عرفها الآمدى فقال: هي مصلحة لم يشهد الشرع لها باعتبار ولا إلغاء. الإحكام في أصول الأحكام للآمدى 3/ 290 مؤسسة الحلبى 1967م. ولذلك سميت مرسلة.
      وحجيته: ذهب الجمهور إلى أن المصلحة المرسلة حجة شرعية يبنى عليها تشريع الأحكام، وأن الواقعة التي لا حكم فيها بنص أو إجماع أو قياس أو استحسان، يشرع فيا الحكم الذي تقتضيه المصلحة المطلقة ولا يتوقف تشريع الحكم بناء على هذه المصلحة على وجود شاهد من الشرع باعتبارها. فأثبت بها الأحكام : مالك وأحمد ، ورفض الأخذ بها الشافعي والظاهرية.
( ) الاستصحاب في الغة: طلب المصاحبة، يقال: استصحب الشىء: لازمه ، ويقال استصحبه الشىء: ساله أن يجعله في صحبته. لسان العرب لابن منظور 4 /2401 دار المعارف ، المعجم الوسيط مجمع اللغة العربية 1 /507 طبعة دار المعارف 1972م ط ثانية. واصطلاحا: بقاء الحكم المبني على النص، حتى يوجد دليل من النصوص يغيره. انظر: البحر المحيط لبدر الشركشى، 6/17 وما بعدها، طبعة وزارة الأوقاف بالكويت طبعة أولى 1990م. وقال الدكتور وهبة الزحيلي: هو الحكم بثبوت أمر أو نفيه في الزمان الحاضر أو المستقبل بناء على ثبوته أو عدمه في الزمان الماضى، لعدم قيام الدليل على تغييره. أصول الفقه الإسلامى للدكتور وهبه الزحيلى 2 /859 دار الفكر ط أولى 1986م. والواضح من تعريف الاستصحاب –وهو ثبوت أمر في الزمان الثاني بناء على ثبوته في الزمان الأول- أنه منهج في الفهم والاستدلال وليس دليلاً، وهو يقتضيه العقل والنظر السليم. أو نقول أن الاستصحاب هو استصحاب البراءة الأصلية في ثبوت الأحكام ونفيها.
       ومن أمثلته الاستصحاب: ويروي الكردري أن رجلا جاء إلى أبي حنيفة وقال له: "لا أدري أطلقت امرأتي أم لا، فقال أبو حنيفة: لا عليك حتى تتيقن الطلاق". المبسوط، 1/86. وفي المدونة ما نصه: "وقال مالك: ولا يقسم ميراث المفقود حتى يأتي خبر موته، أو يبلغ من الزمان ما لا يحيا مثله، فيقسم ميراثه من يوم يموت وذلك اليوم". المدونة الكبرى، 5/134. ويروي ابن قدامة أن ابن أبي ليلى كان يقول: "إنه لا زكاة في العسل، وكان استدلاله على ذلك أنه ليس في وجوب زكاة العسل خبر ثابت". المغني، 2/713-714.
        اختلفت مذاهب العلماء في حجية الاستصحاب بين قائل بحجيته مطلقا ، وبين من لا يرى فيه حجة أصلا، وفريق ثالث وقف موقفا وسطا بين الفريقين .وأكثر المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية على القول الأول - أي بحجيته - سواء في إثبات أمر لأمر أو نفيه عنه ، وهو معتمد الناظر إذا لم يجد في الواقعة دليلا منفردا بها .وللاستصحاب مداره العقلي والشرعي في حالة الإثبات، أما النفي فلا مدار له إلا في جانب العقل كما ذكر الزركشي في البحر ، لأن العقل لا قدرة له على إثبات حكم وجودي .
( ) ابن تيمية ، الفتاوى الكبرى ، 1/327 . وله مجموع الفتاوى ، 21/207 .
( ) أبو عبد الرحمن الظاهري ، تحـرير بعض المسائل على مذهب الأصحاب ، ص 15 وما بعدها ، مكتبة دار العلوم ، الرياض ، 1401هـ.
( ) يقول الإمام الشوكاني عن مكانة المذهب الظاهري بأنه : " أول الفكر آخر العمل عند مَن رُزِق الإنصاف ، وكانت عنده فِطنة لم يَرِدْ عليها ما يغيّرها عن أصلها . وليس هو مذهب داود الظاهري وأتباعه فقط ، بل هو مذهب أكابر المتقيدين بنصوص الشرع ، من عصر الصحابة إلى الآن ، وداود واحد منهم ... ثم ، قال : وأنت إذا أمعنتَ النظر في مقالات أكابر المجتهدين المشتغلين بالأدلة ، وجدتَها من مذهب الظاهر بعينه . بل ، إذا رُزِقت الإنصافَ ، وعرفتَ العلوم الاجتهادية كما ينبغي ، ونظرت في علوم الكتاب والسنـة حقّ النظر، كنتَ ظاهريا ، أي : عاملاً بظاهر الكتاب والسنـة ، منسوباً إليه لا إلى داود الظاهري ، فإن نِسْبَتَك إليه ، ونسبته إلى الظاهر متفقة ، وهذه النسبة مساوية للنسبة إلى الإيمان والإسلام ، وإلى خـاتم الرسل عليه أفضـل الصلاة والسلام . الشوكاني ، البدر الطالع 2/290 .
( ) ابن حزم ، الديوان الأكبر ، ص 47 .
( ) انظر: د. عبد الكريم خليفة، ابن حزم الأندلسي، ص 135.
( ) وقد ثبت وجود دولة خلفاؤها ظاهريون وقضاؤها ظاهريا، فقد كان لهذا المذهب دولة في الأندلس زمن الموحدين استمرت مائة واثنتان وخمسون سنة من عام 515 إلى عام 668وكان الخليفة ظاهريا ، والقضاة يقضون على هذا المنهج ، ثم كان لها ظهور في تونس على أيدي الحفصيين من عام 625 إلى عام 941 ، ثم عاود المذهب المالكي ظهوره على أنقاض المنهج الظاهر . انظر : المدرسة الظاهرية بالمغرب والأندلس ، د. توفيق بن أحمد الغلبزوري الادريسي ، ص617 ومابعدها ، دار ابن حزم ، الرياض ، الطبعة الاولى 1427هـ .
( ) انظر : المدخل للفقه الإسلامي ، الدكتور حسن محمد سقر .
( ) انظر : ديلاسي أوليري ، الفكر العربي ومكانه في التاريخ ، ص 240 ، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر ، القاهرة ، ترجمة : د. تمام حسن .
( ) نوادر الإمام ابن حزم ، 2/139 .
( ) ابن حزم ، رسالة سئل فيها سؤال تعنيف ، 3/102 ، ضمن رسائل له ، وقام بتحقيقها :د. إحسان عباس .
( ) ابن حزم، 1940، النبذ في أصول الفقه الظاهري، ص 7. تحقيق: محمد زاهد الكوثري، القاهرة، مطبعة الأنوار.
( ) المصدر السابق، ص 24.
( ) المصدر السابق، ص 25.
( ) انظر : الذهبي ، سير أعلام النبلاء ، 1/46 . ابن خلكان ، فيات الأعيان ، 3/328 .
( ) ياقوت، معجم الأدباء، 12/248.
( ) د. فاروق عبد المعطي، 1992م، ابن حزم الظاهري، ص 164 – 165، بيروت، دار الكتب العلمية.
( ) والرسالة التي تنسب إلى عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، والتي يقول فيها: "قس الأمور واعرف الأشباه والأمثال، ثم أعمد إلى أولاها بالحق، وأحبها إلى الله فاقض به". فإن ابن حزم ينكر صحتها ويطعن في رواتها، ويستبعد أن تصدر تلك الرسالة عن عمر ويقول: "هذه رسالة لا تصح، تفرد بها عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه، وكلاهما متروك، ومن طريق عبد الله بن أبي سعيد وهو مجهول، ومثلها بعيد عن عمر". إبطال القياس، ص 6.
       والجدير بالذكر أنه لما كانت العلة هي الأساس في القياس فإن ابن حزم تناولها بالتجريح، حيث إنه يستعرض تاريخ التعليل والقول به عند الفقهاء في كتابه (الأحكام في أصول الأحكام) فيقول: "فباليقين ضرورة نعلم أنه لم يقل قط بها أحد من الصحابة بوجه من الوجوه، ولا أحد من التابعين، ولا أحد من تابعي التابعين، وإنما هو أمر حدث في أصحاب الشافعي، والتبعهم عليه أصحاب أبي حنيفة، ثم تلاهم فيه أصحاب مالك، وهذا أمر متيقن عندنا وعندهم". الأحكام في أصول الأحكام، 7/177.
       ومع هذا يستعرض ابن حزم في كتابه (ابطال القياس) نصوصا من الكتاب والسنة نص فيها على أنه حكم بأشياء من أجل أشياء كقوله تعالى: ولكم في القصاص حياة، فجعل الحياة وبقاءها علة للقصاص، وكقول النبي  في الرطب: "أينقص إذا يبس؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذا". وكقول النبي : "إنما الاستئذان من أجل البصر". ويقول عن تلك العلل المنصوصة: "لم ننكر ما نص الله ورسوله، بل ننكر ما أخرجتموه بعقولكم، وادعيتموه بلا برهان ولا نص، وذلك اخبار عن الله بما لم يخبر، وتقويل لرسوله بما لم يقل". ملخص ابطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعلي، ص 45، طبع بدمشق، 1960م، تحقيق: سعيد الافغاني.
       وفي هذا يفرق ابن حزم بين علتين: علة منصوصة، وعلة غير مستنبطة، فلا ينكر الأولى، لاتفاقها مع مذهبه، وينكر الثانية، لأنها مستنبطة بالعقل. إذن، فمن الممكن القول إنه لا ينكر العلة المنصوصة، وأن الحكم موقوف عليها، وإنما ينكر الانتقال بالحكم إلى علة مماثلة مستنبطة. لمزيد من التفصيل راجع: محمد سليمان داود، 1984م، نظرية القياس الأصولي -منهج تجريبي إسلامي-، ص 242 وما بعدها، الاسكندرية، دار الدعوة.
( ) د. زكريا إبراهيم، ابن حزم الأندلسي، ص 156.
( ) ابن حزم ، رسالة سئل فيها سؤال تعنيف ، 3/80 .
( ) والحقيقة أن التأويل العقلي لبعض نصوص معينة من الآيات المتشابهات والسنة النبوية ، قضية أقرّها بعض المذاهب الكلامية عامة وبخاصة المعتزلة والمتكلمون من الأشاعرة ، وأما السلف فقد جنح بعضهم إلى التأويل ، حيث فسروا معنى " المعية " في الآيتين من قوله  :  أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا  - المجادلة : 7 - . وقوله  :  هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ  - الحديد : 4 - . بأنها معية العلم لا معيـة الذات ، لأن الله  افتتح الآيتين بالعلم بهم وختمها به ، فدل على أنه أراد العلم بهم وبأعمـالهم ، لا أنه نفسه في كل مكان معهم . انظر : الآجري ، الشريعة ، ص 288 ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، بدون تاريخ ، تحقيق : محمد حامد الفقي . مجموع فتاوى ابن تيمية ، 5/103 ، 495 ، 496 .
( ) ابن كثير ، البداية والنهاية ، 12\13 .
( ) ابن كثير ، البداية والنهاية ، 14\332 .
( ) ابن حزم ، رسالة البيان عن حقيقة الإيمان ، ، 3/191 .
( ) المصدر السابق ، 3/200 – 201 .
( ) د. أحمد صبحي ، في علم الكلام ، ص 202 .
( ) ابن حزم ، الأصول والفروع ، 1/217 – 220 . وله الفصل في الملل والأهواء والنحل ، 2/91 – 97 .
( ) ابن حزم، الأحكام، 1/6.
( ) الفصل في الملل والأهواء والنحل، 5/199.
( ) أبوزهرة، ابن حزم، ص 153.
( ) ابن حزم، 1960م، رسالة الرد على الكندي الفيلسوف، ص 198 – 2002، ضمن رسائل ابن حزم طبع بالقاهرة، تحقيق: إحسان عباس.
( ) ابن تيمية ، درء تعارض العقل والنقل ، 5/250.
( ) ابن تيمية ، مجموع الفتاوى ، 4/19 .
ولمزيد من التفصيل عن آراء ابن حزم في المنطق، راجع كتاب: "ابن حزم و موقفه من الفلسفة و المنطق و الأخلاق"، وديع واصف مصطفى، المجمع الثقافي، الامارات العربية المتحدة.
( ) انظر: العبر، 3/289.

0 komentar:

Post a Comment