Monday, March 8, 2010

الماتريدية، النشأة والمنهج

الماتريدية،النشأة والمنهج
الدكتور/ كمال الدين نور الدين مرجوني
التعريف بالماتريدية
إحدى الفرق الإسلامية التي ظهرت في أوائل القرن الرابع الهجري في سمرقند من بلاد ما وراء النهر ( ). دعت إلى مذهب أهل السنة ، وسميت بـ (الماتريدية) نسبة إلى مؤسسها محمد بن محمد السمرقندي الماتريدي. ولد بها ولا يعرف على وجه اليقين تاريخ مولده ( )، بل لم يذكر من ترجم له كثيراً عن حياته، أو كيف نشأ وتعلم، أو بمن تأثر. وتوفي – رحمه الله تعالى – عام (333هـ) ودفن بسمرقند.
وقد أطلق على الإمام الماتريدي بعدة ألقاب تدل على قدره وعلو منزلته عندهم مثل: "إمام المهدى"، "إمام المتكلمين"، " إمام أهل السنة ". فقال عنه عبد الله المرائي: " كان أبو منصور قوي الحجة، فحما في الخصومة ، دافع عن عقائد المسلمين ، ورد شبهات الملحدين.." ( ). وقال عنه الشيخ أبو الحسن الندوي: "جهبذ من جهابذة الفكر الإنساني ، امتاز بالذكاء والنبوغ وحذق الفنون العلمية المختلفة" ( ) .
وافقت هذه الفرقة منهج المذهب الحنفي فقهاً وكلاماً، حيث إن أسس ومبادئي هذه الفرقة تعتمد على المذهب الحنفي سواء كان في المسائل الاعتقادية أوالفقهية، فقد تلقَّى مؤسس الفرقة أبو منصور الماتريدي العلم والحديث على يد كبار علماء المذهب الحنفي من أمثال: أبو بكر أحمد بن إسحاق الجوزجاني (تـ 200هـ) ، ومحمد بن مقاتل الرازي (تـ 248هـ)، نصير بن يحيى البلخي (تـ 268هـ) ، وأبي نصر أحمد بن العياضي، ومن هنا، ذهب الكثير من علماء الحنفية إلى أن النتائج التي وصل إليها الإمام الماتريدي تتفق تمام الاتفاق مع ما قرره الإمام أبو حنيفة في العقائد، فكانت آراء أبي حنيفة هي الأصل الذي تفرعت منه آراء الماتريدي الكلامية.
وتجدر بالإشارة إليه، أن الإمام الماتريدي كان معاصراً للإمام الأشعري، هذا في سمرقند وذاك في البصرة وكان عصرهما مليئا بالحركات الدينية ، كالصوفية ورجال التصوف الكبار أمثال أبي يزيد البسطامي، والجنيد، والحلاج، كما نشطت فيه الحركات الشيعية، وكانت حركة الاعتزال في آخر أيامها، وكان لكل مذهب علماء يؤيدونه ويأخذون بمناصرته، وقد اتفق الماتريدي والأشعري على كثير من المسائل الأساسية – وسنشير إليها فيما بعد –. وقيل: إن الماتريدية – كالأشعرية – انبثقت من الكلاّبية (عبد الله بن سعيد الكلابي)، والدليل على هذا أن أهم ما تتميز به الماتريدية هو القول بأزلية التكوين، وهذا ما قالت به الكلاّبية من قبل ظهور الماتريدية، كما أن المذهب الكلابي كان منتشرا في بلاد ماوراء النهر وهي بلاد الماتريدي .
وعلى أية حال، فإن لأنصار أبي منصور الماتريدي – كغيره من أئمة المذاهب – الدور المهم في إنضاج المذهب ونصرته، ونشره، وإشاعته، فقد كافحوا الحشوية والوهابية على مر التاريخ وخصوصاً في عصر الشيخ محمد زاهد بن الحسن الكوثري، وكان على رأسهم في تحمل تلك المسؤولية الجسيمة كبار علمائهم ومفكر يهم أمثال: أبي اليسر محمد بن محمد البزدوي، وأبي المعين محمد بن محمد النسفي، ونجم الدين عمر بن محمد الحنفي النسفي وغيرهم من العلماء.
وقد مرت الماتريدية كفرقة كلامية بعدة مراحل، ولم تُعرف بهذا الاسم إلا بعد وفاة مؤسسها، كما لم تعرف الأشعرية وتنتشر إلا بعد وفاة أبي الحسن الأشعري، ويبدو أن المذهب الماتريدي مر في أربع مراحل رئيسية كالتالي:
المرحلة الأولى :
مرحلة التأسيس: (000ـ333هـ ) والتي اتسمت بشدة المناظرات مع المعتزلة والإمام الماتريدي في هذه المرحلة، عاصر أبا الحسن الأشعري، وعاش الملحمة بين أهل الحديث وأهل الكلام من المعتزلة وغيرهم، فكانت له جولاته ضد المعتزلة وغيرهم، ولكن بمنهاج غير منهاج الأشعري، وإن التقيا في كثير من النتائج. للإمام الماتريدي مؤلفات كثيرة ومن أشهرها كتاب في التفسير: "تأويلات أهل السنة أو تأويلات القرآن"( ) . وفيه تناول نصوص القرآن الكريم، ولا سيما آيات الصفات، فأوَّلها بتأويلات. و من أشهر كتبه في علم الكلام "كتاب التوحيد" وفيه قرر نظرياته الكلامية، وبيَّن معتقده في أهم المسائل الاعتقادية، ويقصد بالتوحيد: توحيد الخالقية والربوبية، وشيء من توحيد الأسماء والصفات، وقد عطل كثيرا من الصفات بحجة التنزيه ونفي التشبيه؛ مخالفاً طريقة السلف الصالح. كما ينسب إليه شرح كتاب الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة، وله في الردود على المعتزلة "رد الأصول الخمسة" وأيضاً في "الرد على الروافض" ورد كتاب الإمامة لبعض الروافض، وفي الرد على القرامطة.
إذن، فدور التأسيس هنا كان مرتبطا بحياة الإمام الماتريدي ما بين عامي (238- 333 هـ)، وقد تميز هذا الدور بكثرة المساجلات بين الماتريدي وبين المعتزلة
المرحلة الثانية :
وهي مرحلة التكوين: ( 333ـ500هـ ): وتعد هذه المرحلة مرحلة تلامذة الماتريدي ومن تأثر به من بعده، وفيه أصبحت فرقة كلامية ظهرت أولاً في سمرقند، وعملت على نشر أفكار شيخهم وإمامهم، ودافعوا عنها، وصنفوا التصانيف متبعين مذهب الإمام أبي حنيفة في الفروع (الأحكام)، فراجت العقيدة الماتريدية في تلك البلاد أكثر من غيرها.
ومن أشهر أصحاب هذه المرحلة: أبو القاسم إسحاق بن محمد بن إسماعيل الحكيم السمرقندي (342هـ)، عرف بـ "أبي القاسم الحكيم" لكثرة حكمه ومواعظه، وأبو محمد عبد الكريم بن موسى بن عيسى البزدوي (390هـ). ثم تلي ذلك علماء الماتريدية الأجلاء من أمثال: أبي اليسر البزدوي (421ـ493هـ) : هو محمد بن محمد بن الحسين ابن عبد الكريم، والبزدوي نسبة إلى بزدوة ويقال بزدة، ولقب بالقاضي الصدر، وهو شيخ الحنفية بعد أخيه الكبير علي البزودي، ولد عام (421هـ). وتلقى العلم على يد أبيه ، الذي أخذه عن جده عبد الكريم تلميذ أبي منصور الماتريدي، قرأ كتب الفلاسفة أمثال الكندي وغيره، وكذلك كتب المعتزلة أمثال: الجبائي، والكعبي، والنّظام وغيرهم، وقال فيها: "لا يجوز إمساك تلك الكتب والنظر فيها؛ لكي لا تحدث الشكوك، وتوهن الاعتقاد"، ولا يرى نسبة الممسك إلى البدعة. كما اطلع على كتب الأشعري، وتعمق فيها، وقال: بجواز النظر فيها بعد معرفة أوجه الخطأ فيها، كما اطلع على كتابي " التأويلات" و "والتوحيد" للماتريدي فوجد في كتاب التوحيد قليل انغلاق وتطويل، وفي ترتيبه نوع تعسير، فعمد إلى إعادة ترتيبه وتبسيطه مع ذكر بعض الإضافات عليه في كتاب أصول الدين.
وأخذ عن الشيخ أبو اليسر البزدوي جمٌّ غفير من التلاميذ ؛ ومن أشهرهم: ولده القاضي أبو المعاني أحمد، ونجم الدين عمر بن محمد النسفي صاحب العقائد النسفية وغيرهما، وتوفي في بخارى في التاسع من رجب سنة 493 هـ.
هذا، فكان دور التكوين في هذه المرحلة قد ارتبط بتلاميذ الماتريدي، ويمتد منذ وفاة الماتريدي إلى نحو عام (400 هـ)، حيث انتشر تلاميذ الماتريدي، وبدءوا في نشر كلامه وأفكاره والانتصار لها والدفاع عنها .
المرحلة الثالثة :
وهي مرحلة التأليف والتأصيل للعقيدة الماتريدية ( 500ـ700هـ )، وقد امتازت هذه المرحلة بكثرة التأليف وجمع الأدلة للعقيدة الماتريدية؛ ولذا فهي أكبر الأدوار السابقة في تأسيس العقيدة، ومن أهم شخصيات هذه المرحلة: أبو المعين النسفي (438ـ508هـ)، وهو ميمون بن محمد بن معتمد النسفي المكحولي، والنسفي نسبة إلى نسف وهي مدينة كبيرة بين جيحون وسمرقند، والمكحولي نسبة إلى جده الأكبر، ولكن نسبته إلى بلده غلبت نسبته إلى جده، وله ألقاب عدة أشهرها: سيف الحق والدين .
ويعد أبو المعين النسفي من أشهر علماء الماتريدية البارز، إلا أن من ترجم له لم يذكر أحداً من شيوخه، أو كيفية تلقيه العلم، يقول الدكتور فتح الله خليف – محقق كتاب التوحيد –: "ويعتبر الإمام أبو المعين النسفي من أكبر من قام بنصرة مذهب الماتريدي، وهو بين الماتريدية كالباقلاني والغزالي بين الأشاعرة، ومن أهم كتبه تبصرة الأدلة، ويعد من أهم المراجع في معرفة عقيدة الماتريدية بعد كتاب التوحيد للماتريدي، بل هو أوسع مرجع في عقيدة الماتريدية على الإطلاق، وقد اختصره في كتابه التمهيد، وله أيضاً كتاب بحر الكلام، وهو من الكتب المختصرة التي تناول فيها أهم القضايا الكلامية"، وتوفي في الخامس والعشرين من ذي الحجة سنة (580هـ)، وله سبعون سنة.
ثم برز عالم متكلم آخر من علماء الماتريدية نجم الدين عمر النسفي (462ـ537هـ) هو أبو حفص نجم الدين عمر بن محمد ابن أحمد بن إسماعيل …بن لقمان الحنفي النسفي السمرقندي، وله ألقاب عدة أشهرها: نجم الدين، ولد في نسف سنة (461 أو 462هـ ). وكان من المكثرين من الشيوخ، فقد بلغ عدد شيوخه خمسمائة رجلاً ومن أشهرهم: أبو اليسر البزدوي، وعبد الله بن علي بن عيسى النسفي. وأخذ عنه خلقٌ كثير، وله مؤلفات بلغت المائة، منها: مجمع العلوم، التيسير في تفسير القرآن، النجاح في شرح كتاب أخبار الصحاح في شرح البخاري وكتاب العقائد المشهورة بالعقائد النسفية، والذي يعد من أهم المتون في العقيدة الماتريدية وهو عبارة عن مختصر لتبصرة الأدلة لأبي المعين النسفي قال فيه السمعاني في ترجمة له: "كان إماماً فاضلاً متقناً، صنَّف في كل نوع من التفسير والحديث ... فلما وافيت سمرقند استعرت عدة كتب من تصانيفه، فرأيت فيها أوهاماً كثيرة خارجة عن الحد، فعرفت أنه كان ممن أحب الحديث، ولم يرزق فهمه". وتوفي بسمرقند ليلة الخميس ثاني عشر من جمادى الأولى سنة (537هـ) .
المرحلة الرابعة :
وهي مرحلة التوسع والانتشار: (700ـ1300هـ)، وتعد من أهم مراحل الماتريدية حيث بلغت أوجَ توسعها وانتشارها في هذه المرحل ؛ وما ذلك إلا لمناصرة سلاطين الدولة العثمانية ، فكان سلطان الماتريدية يتسع حسب اتساع سلطان الدولة العثمانية، فانتشرت الماتريدية من خلالها في عدة دول أهمها: شرق الأرض وغربها، وبلاد العرب، والعجم، والهند، والترك، وفارس، والروم.
وبرز في هذه المرحلة علماء أمثال: الكمال بن الهمام صاحب كتاب "المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة" والذي ما زال يدرَّس في بعض الجامعات الإسلامية. وهو من أهم مصادر العقيدة الماتريدية، ومعرفة ما بينها وبين الأشعرية من اتفاق واختلاف. ولد الكمال ابن الهمام سنة (788 أو 790هـ) في سيواس، وهي مدينة في آسيا الصغرى، وانتقل مع أسرته إلى الإسكندرية بمصر، حيث عاش طفولته، وتتلمذ على فقيه الإسكندرية عبد الرحمن العكبرى، ثم ارتحل إلى القاهرة سنة 813هـ، كما سافر إلى حلب بسوريا والقدس والحجاز، وتوفي بالقاهرة سنة (861هـ) .
وفي هذا الدور كثر فيه تأليف الكتب الكلامية من: المتون، والشروح، والشروح على الشروح، والحواشي على الشروح. لذلك فإن دور الانتشار وهو الدور الأخير من مراحل تطور الفرقة الماتريدية قد ارتبط ذلك بظهور أشخاص أكثروا من التأليف والكتابة عن الماتريدي وأفكاره وأصوله والانتصار لها، ويمكن اعتبار هذا الدور ممتدا ما بين عام 400هـ حتى يومنا هذا، وقد ظهر فيه أمثال أبي اليسر البزدوي (493هـ)، وازداد انتشارها على يد أبي المعين النسفي (508هـ)، ونجم الدين عمر النسفي (537هـ)، وحافظ الدين عبد الله النسفي (710هـ).
ويبدو أن هذا الدور كان من أهم أدوار الماتريدية، وشهد مناظرات بين الماتريدية والأشعرية، وخصوصا عند نور الدين أحمد بن محمد الصابوني (580هـ) .
وتجدر بالإشارة إلي أن هناك مدراس مازالت تتبنى الدعوة الماتريدية في شبه القارة الهندية وتتمثل في ثلاث مدارس، وهي:
الأول : مدرسة "ديوبند" و "الندوية" (1283هـ ـ …) .
وتسمية ديوبند بهذا الإسم نسبة إلى جامعة ديوبند التي أسسها سنة (1283هـ) الشيخ محمد قاسم النانوتي الذي توفي سنة (1297هـ)، وفيها كثر الاهتمام بالتأليف في علم الحديث وشروحه، فالديوبندية أئمة في العلوم النقلية والعقلية؛ إلا أنهم متصوفة محضة، وعند كثير منهم بدعٌ قبورية ، كما يشهد عليهم كتابهم "المهنَّد على المفنَّد" للشيخ خليل أحمد السهارنفوري أحد أئمتهم، وهو من أهم كتب الديوبندية في العقيدة، ولا تختلف عنها المدرسة الندوية في كونها ماتريدية العقيدة.
الثاني : مدرسة "البريلوي" (1272هـ ـ…) .
نسبة إلى زعيمهم أحمد رضا خان الأفغاني الحنفي الماتريدي الصوفي الملقب بعبد المصطفي (1340هـ) ، وفي هذا الدور يظهر الإشراك الصريح، والدعوة إلى عبادة القبور، وشدة العداوة للديوبندية، وتكفيرهم فضلاً عن تكفير أهل السنة.
الثالث : مدرسة "الكوثري" (1296هـ ـ …) .
وتنسب إلى الشيخ محمد زاهد الكوثري الجركسي الحنفي الماتريدي (1371هـ)، ويظهر فيها شدة الطعن في أئمة الإسلام ولعنهم، وجعلهم مجسمة ومشبهة، وجعل كتب السلف ككتب: التوحيد، الإبانة، الشريعة، والصفات، والعلو، وغيرها من كتب أئمة السنة، كتب وثنيةٍ، وتجسيمٍ وتشبيهٍ، كما يظهر فيها أيضاً شدة الدعوة إلى البدع الشركية، وللتصوف من تعظيم القبور والمقبورين تحت ستار التوسل ( ) .
وعلى أية حال، فإن الماتريدية بلغت قمة قوتها وذروتها بتدعيم الدولة العثمانية لها وهي بالتحديد سنة (700 – 1300هـ)، إذ كانت دولة حنفية الفروع، ماتريدية العقيدة، ومن تركيا انتشرت العقيدة الماتريدية شرقا وغربا، ويعد الهند من أهم مراكز المذهب الماتريدي، منذ أن حكمها الملوك السامانيون قديما، ثم قوي المذهب الماتريدي في العصر الحديث بعد أن اعتنقها الديوبندية. ولا يزال في الأزهر الشريف تدريس العقيدة الماتريدية وبخاصة تدريس كتاب "شرخ العقائد النسفية" للتفتازاني ، وهو شرح لكتاب " العقائد النسفية" لنجم الدين عمر النسفي المتوفى سنة (537هـ) .
منهج الماتريدية
تميزت الماتريدية عن غيرها من الفرق الكلامية بمناهج وطرق في تقرير المسائل الإعتقادية، حيث ضموا منهجهم إلى مناهج الفرق الكلامية المختلفة، فتارة نرى منهجهم قريب من منهج المعتزلة، وتارة أخرى قريب من منهج الأشعرية، وأحيانا نرى أنهم يستخدمون المنهج السلفي. ومع هذا يمكننا القول بأن نهج الإمام الماتريدي هو نهج الإمام الأشعري في التوسط بين الغالين من المشبهة والمعتزلة.
ومن هنا اختلف الباحثون حول المنهج والاتجاه وانتماء الماتريدية في دراسة العقيدة إلى عدة أقوال:
القول الأول :
يرى الدكتور إبراهيم مدكور أن الماتريدية في حقيقتها شعبة من شعب أهل السنة والجماعة ( ) . بل صرح الدكتور علي عبد الفتاح المغربي بأن الإمام الماتريدي إمام أهل السنة والجماعة، هذا ما أورده في عنوان كتابه. وقد أكد الدكتور فتح الله خليف انتماء الماتريدية لمذهب أهل السنة والجماعة( ) . وأكد بذلك قبله الشيخ محمد زاهد الكوثري قائلا عن هذين الإمامين الأشعري والماتريدي: " ... فالأشعريّ والماتريدي هما إماما أهل السنّة والجماعة في مشارق الأرض ومغاربها، لهم كتب لا تحصى، وغالب ما وقع بين هذين الإمامين من الخلاف من قبيل اللّفظي " ( ) . وهذا ما ذهب إليه أستاذي الدكتور حسن الشافعي، حيث صرح بأن الماتريدية يشكلون مع الأشاعرة الجناح الكلامي لأهل السنة ( ) .
إذن، فقد أطلق على أهل السنة فرقتان أو مذهبان وهما: الأشعرية والماتريدية فقال صاحب كتاب ( مفتاح السعادة ):
" إنّ رئيس أهل السنّة والجماعة في علم الكلام رجلان: أحدهما حنفيّ، والآخر شافعي، أمّا الحنفي: فهو أبو منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي، وأمّا الآخر الشافعي: فهو شيخ السنّة أبو الحسن الأشعري البصري "( ). ويقول الزبيدي: « إذا اُطلق أهل السنّة والجماعة ، فالمراد هم الأشاعرة والماتريدية »( ) وفي حاشية الكستلي ( ) على شرح العقائد النسفية للتفتازاني : « المشهور من أهل السنّة في ديار خراسان والعراق والشام وأكثر الأقطار، هم الأشاعرة، وفي ديار ماوراءالنهر الماتريدية أصحاب أبي منصور الماتريدي تلميذ أبي نصر العياضي، تلميذ أبي بكر الجرجاني، تلميذ محمّد بن الحسن الشيباني من أصحاب الإمام أبي حنيفة »( ). وقد أشار أبو عذبة إلى أن مدار جميع عقائد أهل السنة والجماعة على كلا قطبين: أحدهما الإمام أبو الحسن الأشعري، والثاني الإمام أبو منصور الماتريدي ( ) .
وفي موضع آخر يقول صاحب (رسالة في الاختلاف بين الأشاعرة والماتريدية): "اعلم أن الشيخ أبا الحسن الأشعري إمام أهل السنة ومقدمهم، ثم الشيخ أبو منصور الماتريدي، وإن أصحاب الشافعيّ وأتباعه تابعون له، أي لأبي الحسن الأشعري في الأصول وللشافعيّ في الفروع. وإن أصحاب أبي حنيفة تابعون للشيخ أبو منصور الماتريدي في الأصول، ولأبي حنيفة في الفروع، كما أفادنا بعض مشايخنا رحمه الله تعالى، ولا نزاع بين الشيخين وأتباعه إلا في اثني عشر مسألة" ( ).
القول الثاني :
يرى الدكتور محمود قاسم أن الماتريدية أقرب إلى المعتزلة منها إلى الأشعرية ( ) .
القول الثالث:
يرى أحمد أمين أن لون الاعتزال أبرز في الأشعرية من الماتريدية، فقال: " لقد اتّفق الماتريدي والأشعري على كثير من المسائل الأساسية، وقد أُلِّفت كتب كثيرة وملخّصات، بعضها يشرح مذهب الماتريدي كالعقائد النسفية لنجم الدين النسفي، وبعضها يشرح عقيدة الأشعري كالسنوسية و الجوهرة، وقد أُلِّفت كتب في حصر المسائل الّتي اختلف فيها الماتريدي والأشعري، ربّما أوصلها بعضهم إلى أربعين مسألة، ثمّ قال: إنّ لون الإعتزال أظهر في الأشعريّة بحكم تتلمذ الأشعري للمعتزلة عهداً طويلاً " ( ) .
القول الرابع :
يرى الشيخ محمد زاهد الكوثري (تـ 1371هـ) أن الماتريدية هم الوسط بين الأشاعرة والمعتزلة، وقلّما يوجد بينهم متصوّف ( ) . وقد أكد هذا الرأي الشيخ أبو زهرة فقال: " عند الدراسة العميقة لآراء الماتريدية وآراء الأشعري في آخر ما أنتهي إليه، نجد ثمة فرقا في التفكير ، وفيما انتهى إليه الإمامان ... أن أحدهما كان يعطي العقل سلطانا أكثر مما يعطيه الآخر ... ولذلك نقرر أن منهاج الماتريدية للعقل سلطان كبير فيه ... فإن الماتريدية في خط بين المعتزلة والأشاعرة ... ولذا كان قول صديقنا الكوثري: إن الأشاعرة بين المعتزلة والمحدثين، والماتريدية بين المعتزلة والأشاعرة صادقا " ( ) .
ويبدو لي رجحان الرأي الأخير القائل بأن الماتريدية وسط بين الأشاعرة والماتريدية، حيث نهج الماتريدية منهجي الأشاعرة والمعتزلة معا في معالجتهم لقضايا العقدية، فالماتريدية اقتربوا من المعتزلة حينما أعلوا شأن العقل، وأعطوها سلطان أكبر ومجالا أوسع، واقتربوا من الأشعرية حينما رأوا أن النقل هو المصدر الوحيد للإنسان في معرفة عالم الغيب، حيث وافقت الماتريدية الأشعرية في الإيمان بالسمعيات مثل: أحوال البرزخ، وأمور الآخرة من: الحشر، والنشر، والميزان، والصراط، والشفاعة، والجنة، والنار، لأنهم جعلوا مصدر التلقي فيها السمع، لأنها من الأمور الممكنة التي أخبر بها النبي ، وأيدتها نصوص الكتاب والسنة. وبالتالي فإنهم – الماتريدية والأشعرية – أثبتوا رؤية الله تعالى في الآخرة .
ومن ناحية أخرى، يلاحظ أنه إذا كان الأشعري قد برز للتوفيق بين أهل الحديث وأهل العقل (المعتزلة)، فإن الماتريدي تميز بمحاولة التوفيق بين الأشاعرة والمعتزلة حيث إن الأشاعرة لم يقدّروا العقل حق قدره، والمعتزلة لم يقدروا الوحي حق قدره .
ويمكننا أن نحصر أهم مناهج الماتريدية الكلامية في الترتيب التالي :
الأول : عدم الركون إلى التقليد .
يذم الماتريدية التقليد لمعرفة الحقائق الدينية ، يقول الإمام الماتريدية: " إن التقليد ليس مما يعذر صاحبه لإصابة مثله ضده ... فالتقليد ليس فيه سوى كثرة العدد " ( ). يوضح هذا النص أن الماتريدية لا يرون مسوغا للتقليد.
والحقيقة أن منع التقليد في أصول الدين يراه معظم الفرق والمذاهب الإسلامية ، كالمعتزلة فيقول القاضي عبد الجبار الهمذاني في بيان فساد التقليد: " إن القول به يؤدي إلي جحد الضرورة؛ لأن تقليد من يقول بقدم الأجسام ليس بأولى من تقليد من يقول بحدوثها ، فيجب إما أن يعتقد حدوثها وقدمها وذلك محال، أو يخرج عن كلا الاعتقادين، وهو محال أيضاً ... ويدل على ذلك أنه تعالى لم يقتصر في كتابه في التوحيد والعدل وسائر المذاهب على ذكر الخبر عنها، بل نبه عن طريق الظن فيها، ولو كان التقليد حقاً لوجب تقليده تعالى، ولاستغنى عن طريق البيان في ذلك، ولوجب أن يقتصر صلى الله عليه أيضاً على الدعاوى دون إقامة البراهين " ( ) .
وفي موضع آخر يوضح الزيدية أهمية النظر في المسائل الأصولية، إذ يذهبون إلى أن التقليد مطلقا مذموم عقلا وشرعا، أما العقل فلأن المقلد لا يأمن من الهلاك بسبب ترك النظر، ولأن العقلاء يذمون من لم ينظر في أمور دينه، كما يذمونه على ترك النظر في أمور دنياه. وأما السمع فهناك آيات كثيرة تدل على وجوب النظر منها : قوله :  أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ  - الغاشية: 17 - . وقوله :  أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا  - الروم: 8 - . وقوله  :  أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ  - العنكبوت: 19 - . وأما السنة فبقوله  عن جابر بن عبد الله: » قوام المرء عقله ، ولا دين لمن لا عقل له « ( ) ، وقوله : » إنما يدرك الخير كله بالعقل ، ولا دين لمن لا عقل له « ( ) . وبالإضافة إلى ذلك، فإن في الكتاب محكما ومتشابها، وناسخا ومنسوخا، ولا يعلم المحكم من المتشابه، ولا الناسخ من المنسوخ إلا بنظر واستدلال عقليّ. هذه هي أهم استدلال الزيدية على وجوب النظر، وعدم جواز التقليد مطلقا ( ) .
ومن هنا، يرى الإمام الشوكاني إجماع العلماء على منع التقليد في أصول الدين، حيث إنه نقل عن أبي الحسين القطان قوله : " لا نعلم خلافاً في امتناع التقليد في التوحيد. وحكاه السمعاني عن جميع المتكلمين وطائفة من الفقهاء. وقال إمام الحرمين في الشامل: لم يقل أحد بالتقليد في الأصول إلاّ الحنابل . وقال الاسفراييني: لا يخالف فيه إلا أهل الظاهر " ( ) .
الثاني : مصدر تلقى العقيدة بالعقل والنقل .
يوضح الإمام الماتريدي أن مصادر المعرفة الإنسانية تكون في ثلاثة طرق، وهي بالعيان، والأخبار، والنظر، والعيان هنا يراد به المعرفة الحسية، وأهمها الرؤية البصرية بالعين، وأما الأخبار فهي المعرفة السمعية أو النقل، وأما النظر فالمراد به نظر العقل أو المعرفة العقلية. ولكل مصدر من هذه المصادر يختص بإدراك موضوعاته وحدها، فلا يمكن لأحد أن يدرك موضوعات مصدر آخر، فمن أراد أن يدرك مسألة عقلية بالحس فقد أراد محالا، لأنه طلب معرفة ما ليس طريقه الحس بالحس، فهو كمن يريد أن يميز الأصوات بالبصر، وبين الألوان بالسمع، وكذا كل معروف بحس، أحب أن يعقل ذلك غيره ، فيقصر عنه عقله ، فمثله ما كان طريق العلم به غير الحواس، فأراد الوصول إليه بها، لم سعه عقله ( ) .
وأما بخصوص المعرفة الدينية فتعتمد على مصدرين فقط لا غير، وهما: السمع والعقل، وفي ذلك يقول الإمام الماتريدي: " أصل ما يعرف به الدين ... وجهان: أحدهما السمع والآخر العقل "( ).
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو ما موقف الإمام الماتريدي من قضية العقل والنقل ، فهل كان يقدم العقل على النقل – كما عليه المعتزلة – أو أنه يقدم النقل على العقل – كما عليه السلف – ؟ .
والحقيقة أن موقف الإمام الماتريدي تجاه هذه المسألة أي العقل والنقل متضارب، حيث ورد نص صريح يدل على أنه كان يقدم النقل على العقل، وذلك في قوله: " لزم قبول أخبار الرسل، إذ لا خبر أظهر صدقا من خبرهم بما معهم من الآيات الموضحة صدقهم ... فمن أنكر ذلك، فهو أحق من يقضي عليه بالتعنت والمكابرة " ( ) .
فهذا النص يوضح لنا أهمية النقل لتلقى العلوم الدينية، إذ أنه المصدر الوحيد للإنسان من معرفة عالم الغيب، فالناس يعرفون السمعيات أو الأخرويات بالنقل، سواء كان من الآيات القرآنية أو من الأحاديث النبوية . وأكد بذلك المتكلم المـاتريدي الملا علي القاري (تـ 1014هـ)، فقال: " ثم العقائد يجب أن تؤخذ من الشرع الذي هو الأصل، وإن كانت مما يستقل فيه العقل، وإلا فعلم إثبات الصانع، وعلمه وقدرته لا تتوقف – من حيث ذاتها – على الكتاب والسنة، ولكنها تتوقف عليها من حيث الاعتداد بها، لأن هذه المباحث إذا لم يعتبر مطابقتها للكتاب والسنة، كانت بمنزلة العلم الإلهي للفلاسفة، لا عبرة بها على ما ذكره المحققون " ( ) .
ومن ناحية آخر أثنى على منهج أهل السنة القاضي كمال الدين البياضي الماتريدي (تـ1098هـ) قائلا : " لأنهم – أهل السنة – السواد الأعظم، المتبعون لظواهر محكمات الكتاب والسنة، المتفقون في أصول العقائد، الآخذون لها عن المحكمات دون مجرد العقول كالمعتزلة ومن يحذو حذوهم، لأن جعل العقل موجبا ينزع إلى التشريع، دون المنقول من غير الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ... ( ) .
وهناك نص آخر يشير إلى أن الإمام الماتريدي يقدم العقل على النقل، حيث أنه رفع من شأن العقل ومنزلته فوق النقل، كما رأينا موقفه من التحسين والتقبيح، فهو في هذه القضية مقلدا تماما للمعتزلة الذين يرون أن العقل مصدر للتحسين والتقبيح، فليس للنقل دور أو نصيب في هذا الصدد، بل دافع الماتريدي عن النظر العقلي بشدة، لأن التعقل أو النظر في رأيه أمر ضروري للغالية، بل ذهب إلى أن النظر يفضي بصاحبه إلى معرفة الباري عز وجل، وأنه تعالى سوف يجزيه بالإحسان خيرا، ويعاقبه بالإساءة، فبالنظر يجتنب الإنسان ما يسخطه تعالى، ويقبل ما يرضيه، وينال شرف الدارين، ولا يجوز أن يقال: إن الله يأمر العبد بما لا يفهم، فما من شيء يأمر الله به، إلا وقد جعل تعالى لفهم ذلك سبيلا، ولكن جهات الأصول مختلفة، فتعلم إما بالنظر والفكر، وإما بخطاب السمع " ( ) .
وقد غلا بعض أتباع الماتريدية في النزعة العقلية كغلو المعتزلة والفلاسفة من أمثال ابن سينا، فقال عبد الحميد بن عبد الله الآلوسي الماتريدي: " قد صرح غير واحد من علماء الحنفية (يريد الماتريدية) بأن العقل حجة من حجج الله تعالى ، ويجب الاستدلال به قبل ورود الشرع، وعليه فيكون إرسال الرسل، وإنزال الكتب تتمة للدين من بيان ما لا يهتدي العقول إليه من أنواع العبادات والحدود، وأمر البعث والجزاء، فإن ذلك مما يشكل مع العقل وحده، لا لنفس معرفة الخالق، فإنها تنال ببداية العقول " ( ) . بالإضافة إلى قول ابن الهمام الماتريدي (تـ861هـ): " إن الشرع إنما ثبت بالعقل، فإن ثبوته يتوقف على دلالة المعجزة على صدق المبلغ، وإنما تثبت هذه الدلالة بالعقل، فلو أتى الشرع بما يكذبه العقل، وهو شاهده، لبطل الشرع والعقل معا " ( ) .
فهذا النص هو نفس العبارة لمتكلمي المعتزلة، وعلى هذا يمكن القول بأن الماتريدية يعولون في تقرير المسائل العقائدية على العقل ثم النقل، فيقدمون العقل على النقل، وبخاصة عند التعارض بينهما. يقول أحد أئمة الماتريدية: "وقد تقرر أن الأمر الممكن الذي أخبر به الشارع يجب الإيمان به من غير تأويل، وأما الأمر المحال عقلا فالنص الوارد فيه مصروف عن ظاهره، كالنصوص الموهمة لإثبات جسمية، أو جهة للواجب تعالى، نحو قوله: يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ - الفتح : 10 -، فإنها مؤولة بالقدرة، وقوله : اَلرّحْمَـَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىَ - طه : 5 - فالاستواء مؤول بالعظمة التامة، والقدرة القاهرة" ( ) . من هنا يمكننا القول بأن الماتريدية كانوا أكثر اعتدادا بالنظر العقلي من الأشاعرة .
الثالث: التأويل والتفويض.
ومفهوم التأويل عند الماتريدية لا يختلف عن مفهومه عند المتكلمين الآخرين كالأشعرية والمعتزلة والزيدي، فهو: " صرف ظاهر اللفظ عن معناه اللغوي إلى معنى يحتمله "، وأورد الإمام الماتريدي الفرق بين التفسير والتأويل، فيقول: "التفسير للصحابة رضي الله عنهم"، والتأويل للفقهاء"، ومعنى ذلك أن الصحابة شهدوا وعلموا الأمر الذي نزل فيه القرآن، ومنه قيل: (من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)، لأنه فيما فسر يشهد على الله به. وأما التأويل فهو بيان منتهى الأمر، مأخوذ من آل يؤول، أي يرجع وهو توجيه الكلام إلى ما يتوجه إليه، ولا يقع التشديد في التأويل مثل ما يقع في التفسير، إذ ليس في التأويل الشهادة على الله، لأن المتأول لا يقول: أراد الله به كذا، ولكنه يقول: يتوجه هذا إلى كذا وكذا من الوجوه، فالتفسير ذو وجه واحد، والتأويل ذو وجوه " ( ) .
وكما أوضحنا سابقا أن الماتريدية قدموا العقل على النقل عند التعارض بينهما، ومن هنا فإنهم أوجبوا اللجوء في هذه الحالة إلى التأويل المعروف بصرف ظاهر اللفظ عن معناه اللغوي إلى معنى يحتمله، وذلك دفعا للتعارض بين النصوص الشرعية مع الأدلة العقلية، كما في مسألة الصفات الإلهية، وفي هذا يقول أبو المعين النسفي: " إن هذه الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة المروية التي يوهم ظاهرها التشبيه، وكون الباري تعالى جسما متبعضا متجزئا، كانت كلها محتملة لمعاني وراء الظاهر، والحجج المعقولة ... غير محملة، والعقول من أسباب المعارف، وهي حجة الله تعالى، وفي حمل هذه الآيات على ظواهرها ... إثبات المناقضة بين الكتاب والدلائل المعقولة، وهي كلها حجج الله تعالى، ومن تناقضت حججه فهو سفيه جاهل ... والله تعالى حكيم لا يجوز عليه السفه ... فحمل تلك الدلائل السمعية على ظواهرها كان محالا ممتنعا " ( ) . وقول آخر له: "إن حمل الآيات على ظواهرها والامتناع عن صرفها إلى ما يحتمله من التأويل يوجب تناقضا فاحشا في كتاب الله تعالى ... فلا يجوز أن يفهم مما أضيف من الألفاظ إلى الله تعالى ما يستحيل عليه ، ويجب صرفه إلى ما لا يستحيل فيه أو تفويض المراد إليه.. ( ) . وخير مثال على ذلك فقد أول الماتريدية الصفات الخبرية كالمجيء ، والإتيان ، والإستواء على العرش ، والعلو.
المجيء والإتيان :
أول الماتريدي قول الله تعالى:  وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا  – الفجر : 22 –، حيث قال: "أي بالملك، وذلك كقوله :  اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتَلاَ  – المائدة : 24 –، إذ معلوم أنه يقاتل بربه، ففهم منه ذلك" ( ) . وكذلك أول قوله تعالى:  هَلْ يَنْظُرُوْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَـامِ وَالْمَلاَئِكَةِ  – البقرة : 210 –، أي أمر الله ( ) . ويناقش الماتريدية الجهمية فى تعطيلهم لصفة "نزول " الله إلى السماء الدنيا ( ) . فقالوا : لو تركنا هذه النصوص على ظاهرها لزم الانتقال والأعراض و الأجسام وهذا يستلزم التغير و الزوال له تعالى، فيكون الله من الآفلين، فيجب صرف ذلك إلى ما يستحق بالربوبية. و بناء على هذا الأساس الباطل المنهار عطلوا صفات الله تعالى " النزول " و الإتيان " و " المجيء". حرفوا نصوصها، فقالوا : المراد بالنزول اللطف و الرحمة على سبيل التمثيل ( ) . أو نزول بره و عطائه، أو نزول الملك، أو المراد الإطلاع و الإقبال على العباد بالرحمة ( ) .
و هكذا عطلوا صفة " الإتيان " لله تعالى، و حرفوا نصوصها أو معناها: فقالوا المراد: إتيان عذاب، أو إتيان ملائكته، أو مجاز عن التجلي أو معناه: أن يأتي الله بأمره، و بأسه، فحذف المفعول به و غيرها ( ) .
المكان والعلو والاستواء على العرش :
أشار الماتريدي آراء العلماء في هذه المسألة إلى ثلاثة أقوال: فمنهم من زعم أنه تعالى يوصف بأنه على العرش مستو، والعرش عندهم السرير المحمول بالملائكة المحفوف بهم، ومنهم من يقول هو بكل مكان، ومنهم من قال بنفي الوصف بالمكان، وكذلك الأمكنة كلها إلا على مجاز اللغة. وبعد أن استعرض كل هذه الأقوال فيرى من جهته أن إثبات المكان لله والاستواء على العرش يتعارض مع الوصف له بالعلو والرفعة والتعظيم والجـلال ويتعارض مع قوله تعالى :  لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ  – الفرقان : 2 – ، وقوله تعالى :  رَبِّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ  – الصافات : 5 – . ويقول الماتريدي مؤكدا على عدم ثبوت المكان لله تعالى:
"إن الله سبحانه كان ولا مكان، وجائز ارتفاع الأمكنة وبقاؤه على ما كان، فهو على ما كان وكان على ما عليه الآن، جل عن التغير والزوال والاستحالة والبطلان، إذ ذلك أمارات الحدث التي بها عرف حدث العالم، ودلالة احتمال الفناء". وأنهى الماتريدي حديثه في هذه المسألة فقال: "وأما الأصل عندنا في ذلك أن الله تعالى قال :  لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ  – الشورى : 11 ، فنفى عن نفسه شبه الخلق، وقد بينا أن فعله وصفته متعال عن الأشباه، فيجب القول بالرحمن على العرش استوى على ما جاء به التنزيل، وثبت ذلك في العقل، ثم لا نقطع تأويله على شيء لاحتماله غيره مما ذكرناه، واحتماله أيضا ما لم يبلغنا مما يعلم أنه غير محتمل شبه الخلق، ونؤمن بما أراد الله به، وكذلك في كل أمر ثبت التنزيل فيه، نحو الرؤية وغير ذلك، يجب نفي الشبه عنه، والإيمان بما أراده من غير تحقيق على شيء دون شيء، والله الموفق" ( ) .
وقال الماتريدي في موضع آخر: "... وقد بينا أنه في فعله وصفته متعال عن الأشباه، فيجب القول بـ (الرحمن على العرش استوى) – طه – على ما جاء به التنزيل وثبت ذلك في العقل، ثم لا نقطع تأويله على شيء لاحتماله غيره مما ذكرنا ... ونؤمن بما أراده من غير تحقيق على شيء دون شيء ... فإن الله يمتحن بالوقوف في أشياء كما جاء من نعوت الوعد والوعيد، وما جاء من الحروف المقطعة وغير ذلك مما يؤمن المرء أن يكون ذا مما المحنة فيه الوقف لا القطع"( ) .
ونظرا لاضطراب قول الماتريدي بين التأويل والتفويض اضطربت الماتريدية بعده، فرحج بعضهم بالتأويل، ورحج آخرون التفويض ، ومنهم من أجاز الأمرين، ومنهم من خص التفويض بفئة من الناس والتأويل بفئة أخرى، قال أبو المعين النسفي الماتريدي عن آيات الصفات: "إما أن نؤمن بتنزيلها ولا ننشغل بتأويلها ... وإما أن تصرف إلى وجه من التأويل يوافق التوحد" ( ) .
وقال الكمال بن همام الحنفي الماتريدي: "إنه تعالى استوى على العرش مع الحكم بأنه ليس كاستواء الأجسام على الأجسام من التمكن والمماسة والمحاذاة، بل بمعنى يليق به سبحانه، وحصاله: وجوب الإيمان بأنه استوى على العرش مع نفي التشبيه، فأما كون المراد أنه استيلاؤه على العرش فأمر جائز الإرادة ، إذ لا دليل على إرادته عينا، فالواجب عينا ما ذكرنا، وإذا خيف على العامة عدم فهم الاستواء إذا لم يكن بمعنى الاستيلاء إلا باتصال ونحوه من الوازم الجسمية وأن لاينفوه فلا بأس بصرف فهمهم إلى الاستيلاء" ( ) .
وفي موضع آخر يقول ابن قطلوبغا الحنفي الماتريدي: "فاللائق بالعوام سلوك طريق التسليم، واللائق بأهل النظر طريق التأويل لدفع تمسكات المبتدعة" ( ) . فالماتريدية إذا ليس لهم قانون موحد مستقيم يسيرون عليه في التأويل ولا في التفويض فأقوالهم فيه مختلفة مضطربة( ).
وعلى أية حال، فإن الإمام الماتريدي قد اتبع منهاج السلف، حيث رأى ضرورة التفويض وعدم التأويل في هذه الحالة. وأما الماتريديون الذين جاؤا بعده فلا يتابعون إمامهم، وإنما يتابعون المعتزلة في هذه المسألة متابعة تامة. وهذا ما حدث لمتأخري الأشاعرة فإنهم – كذلك – يتابعون المعتزلة في تأويل جميع الصفات الإلهية.
__________________________________________________________________________________
) نهر جيحون ، وحديث يسمى هذا النهر آمودريا ، وعرفت بلاد ما وراء النهر فيما بعد باسم " تركستان " ، وعرف تحت حكم الاتحاد السوفيتي السابق باسم جمهوريات آسيا الوسطى السوفيتية ، وتتكون من خمس جمهوريات ، وهي : أوزبكستان ، وقازاقستان ، وتركمانستان ، وطاجكستان ، وقرغيزستان .
( ) ولكن يرجح بعض الباحثين أنه ولد حوالي سنة 238 هـ ، لأن أحد شيوخه وهو محمد بن مقاتل الرازي توفى سنة 248 هـ ، ومن غير المحتمل أن يكون عمره أقل من عشر سنوات حين وفات شيخه ، على الرغم من ذلك شكك الباحث الشمس الأفغاني في كون الرازي المذكور شيخا للماتريدي ، فيرى من جهته أن الأولى أن يكون ميلاده بالتحديد سنة 258 هـ ، لأن من الثابت أن أحد شيوخ الماتريدي هو نصير بن يحي البلخي توفي سنة 268هـ . انظر: عداء الماتريدية للعقيدة السلفية ، 1/213 .
( ) عبد الله المرائي ، الفتح المبين في طبقات الأصوليين ، 1/193، 194 .
( ) أبو الحسن الندوي ، رجال الفكر والدعوة ، ص 139 . بل ، كان الشيخ الندوي في كتاب آخر له بعنوان " تاريخ الدعوة والعزيمة " يرجِّح الإمام الماتريدي على الإمام الأشعري ، انظر : 1/114ـ115 من الكتاب .
( ) وقد طبع هذا الكتاب بكامله بمؤسسة الرسالة، بيروت – لبنان سنة 2005م .
( ) للتفاصيل راجع : تعليقات الكوثري على كتاب الأسماء والصفات للبيهقي ، وكتاب مقالات الكوثري .
( ) للتفاصيل راجع : تعليقات الكوثري على كتاب الأسماء والصفات للبيهقي ، وكتاب مقالات الكوثري .
( ) د. علي عبد الفتاح المغربي ، مقدمة كتاب التوحيد ، ص 10 .
( ) محمد زاهد الكوثري ، مقدمة كتاب تبيين كذب المفتري : ص 19.
( ) د. حسن الشافعي ، المدخل إلى دراسة علم الكلام ، ص 89 ، مكتبة وهبة ، مصر ، ط2/1991م .
( ) انظر : مقدمة كتاب تبيين كذب المفتري : ص 19.
( ) محمد بن محمد بن الحسيني ، إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار أحيـاء علوم الدين ، 2/8 ، طبع القاهرة .
( ) هو مصلح الدين مصطفى القسطلاني ( م 902 ).
( ) بهامش شرح العقائد النسفية ، ص 17.
( ) أبو عذبة ، الروضة البهية في ما بين الأشاعرة والماتريدية ، ص 81 ، دار ابن حزم ، ط1/2002م ، نشره بسام عبد الوهاب الجابي .
( ) انظر : رسالة في الاختلاف بين الأشاعرة والماتريدية ، صفحة 57 ، طبعت باستنابول ، تركيا ، 1304هـ .
( ) د. محمود قاسم ، مقدمة كتاب مناهج الأدلة ، ص 18 - 19 .
( ) أحمد أمين ، ظهر الإسلام ، 4/ 91 - 95 .
( ) محمد زاهد الكوثري ، مقدمة كتاب تبيين كذب المفترى ، ص 19 .
( ) محمد أبو زهرة ، تاريخ المذاهب الإسلامية ، 1/176 - 177 .
( ) الماتريدي ، كتاب التوحيد ، ص 3 .
( ) عبد الجبار ، المغني في أبواب التوحيد والعدل : النظر والمعارف . تحقيق : د. إبراهيم مدكور . 12/123- 126.
( ) حديث ضعيف ، أورده ابن شيرويه الديلمي في ( الفردوس بمأثور الخطاب ، رقم : 4629 ، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان ، ط1/1986م ، تحقيق : السعيد بن بسيوني زغلول ) . وابن القيسراني في ( كتاب معرفة التذكرة ، رقم : 3858 ، مؤسسة الكتب الثقافية، ط1/1406هـ ، تحقيق : الشيخ عماد الدين أحمد حيدر ) . ويقول البيهقي: تفرد حامد بن آدم في روايته لهذا الحديث وأنه كان متهما بالكذب . انظر : شعب الإيمان ، 4/157 ، رقم : 4644. ويقول ابن عدي : إن هذا الحديث منكر المتن والإسنـاد . انظر : الكامل في ضعفاء الرجال ، 3/100 ، دار الفكر ، بيروت ، 1409هـ ، تحقيق : يحيى مختار غزاوي .
( ) حديث ضعيف ، أورده ابن شيرويه الديلمي في ( الفردوس بمأثور الخطاب ، رقم : 2764 ) .
( ) انظر : أحمد بن سليمان ، كتاب حقائق المعرفة في علم الكلام ، ص 67 – 68 . شرف الدين بن بدر الدين ، كتاب ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة ، ص 27 . أحمد الشرفي ، شرح الأساس الكبير ، 1/209 – 210 .
( ) الشوكاني ، إرشاد الفحول ، ص265 - 266 .
( ) انظر : الماتريدي ، كتاب التوحيد ، ص 7 ، 32 .
( ) الماتريدي ، كتاب التوحيد ، ص 4 .
( ) المصدر السابق ، ص 4 .
( ) الملا علي القاريء ، شرح الفقه الأكبر ، ص 17 .
( ) البياضي ، إشارات المرام ، ص 52 .
( ) انظر : الماتريدي ، كتاب التوحيد ، ص 135 - 137 .
( ) عبد الحميد بن عبد الله الآلوسي ، نثر اللالي على نظم الأمالي ، ص 204 .
( ) الكمال بن الهمام ، شرح المسايرة ، ص 31 – 32 ، طبعة بولاق ، مصر .
( ) عبد العزيز الفريهاري ، النبراس ، ص 316 – 317 ، كتبخانة إكرامية ، بشاور . بدون تاريخ .
( ) الماتريدي ، تأويلات أهل السنة ، ص 5 - 6 .
( ) أيو المعين النسفي ، تبصرة الأدلة ، مخطوط ، لوحة 77 – 78 .
( ) المصدر السابق ، لوحة 110 وما بعدها . الباقلاني ، التمهيد ، ص 19.
( ) الماتريدي ، تأويلات أهل السنة ، ص 83 .
( ) انظر : الماتريدي ، تأويلات أهل السنة ، 435 – 436 .
( ) يلاحظ أن الماتريدية و غيرهم من المعطلة فهم من نصوص " الإتيان" و "النزول" و "المجئ" ما يفهم من صفات المخلوق .
( ) الجرجانى ، شرح المواقف ، 8/25 .
( ) أبو المعين النسفي ، بحر الكلام ، ص 23 .
( ) الماتريدى ، تأويلات أهل السنة ، 1/83-85 .
( ) الماتريدي ، التوحيد ، 72 – 73 .
( ) الماتريدي ، التوحيد ، ص 68 – 69 .
( ) أبو المعين النسفي ، التمهيد في أصول الدين ، ص 19 ، القاهرة ، 1407، تحقيق : عبد الرحمن قابيل .
( ) الكمال ابن همام ، شرح المسايرة ، ص 30 – 33 ، مطبعة السعادة ، القاهرة ، ط2/1347هـ .
( ) المصدر السابق ، ص 33 .
( ) أحمد عوض الله الحربي، الماتريدية – دراسة وتقويما – ، دار العاصمة ، الرياض ، 1413هـ .

0 komentar:

Post a Comment